غازي الصوراني في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: القضايا السياسية والمعرفية وافاق اليسار العربي والعالمي


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 3171 - 2010 / 10 / 31 - 14:28
المحور: مقابلات و حوارات     

حاوره : فواز فرحان

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 12 - سيكون مع مع الأستاذ غازي الصوراني  حول: القضايا السياسية والمعرفية وافاق اليسار العربي والعالمي
.

1- كيف ترون طبيعة الأزمة أو المأزق الراهن لكل من منظمة التحرير الفلسطينية وسبل الخروج ؟

بداية ، أُشير إلى أن م.ت.ف ، منذ تأسيسها، عام 1964 التزمت بالأهداف الوطنية والحقوق التاريخية وفق نصوص ميثاقها، لكن هذا الالتزام سرعان ما جرى التراجع عنه ، بصورة تدرجية منذ عام 1973 ، عبر خطوات تراكميه في مسار الهبوط، وصولاً إلى أوسلو 1993 واعتراف قيادة م.ت.ف بإسرائيل مقابل إنشاء سلطة الحكم الإداري الذاتي وفق شروط وتعقيدات سياسية واقتصادية وأمنية إسرائيلية ، كان من الطبيعي ، في ضوء موافقة السلطة عليها ، أن تتزايد وتيرة التنازلات في المسار السياسي لقيادة م.ت.ف التي لم يعد لديها أي خيار آخر سوى الاستمرار بما يسمى بعملية التفاوض طوال العشرين عاماً الماضية دون أي تقدم يذكر ، سوى المزيد من الهبوط والتراجعات التي وصلت ذروتها في قبول رئيس المنظمة بصيغة المفاوضات المباشرة، رغم تراجع حكومة العدو ومعها الولايات المتحدة عن "كافة المرجعيات" التي سبق الاتفاق عليها ، بل اضافة شرط الاعتراف بـ "يهودية دولة إسرائيل"، وتلك نتيجة تؤشر على وصول المسار التراكمي للتراجعات الفلسطينية إلى ذروته في التخلي عن الحقوق والأهداف الوطنية الفلسطينية ، وأن م.ت.ف في مآلها الراهن لا تمت بصلة مع تلك التي تشكلت عام 1964 .
وحتى لا أكون واهماً ، أو داعياً لزراعة الأوهام ، أقول بصراحة إن معركة الصراع على م.ت.ف من أجل استعادة دورها وبرنامجها ومشروعها الوطني التحرري ، لن تحسم بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج لجهد وتحشيد وطني وجماهيري شامل يبقى مُنْشَدَّاً لهدف الحفاظ عليها كضرورة وطنية راهنة، وفي المدى المنظور، بالاستناد إلى ميثاقها وثوابتها، خاصة وأن اللحظة الراهنة أو العودة للتفاوض وفق الشروط الإسرائيلية، يفرض إعادة نظر جذرية بالنسبة لطبيعة القوى التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة ، لأن يأسها و مصالحها الخاصة هو الذي بات يحركها وليس القضية الوطنية، ما يؤكد على ان الحلقة الخبيثة لمسلسل التنازلات على يد اليمين الفلسطيني هي بمثابة بئر بلا قرار، وإن المآل الذي وصلته قضيتنا الوطنية، يشير إلى أن القيادة الفلسطينية كانت تؤسس سياستها على، وهم الحصول على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما كانت الدولة الصهيونية تسرق الزمن من أجل فرض شروطها على قيادة م.ت.ف.
والآن، يمكن أن نقول بأن "عملية السلام" لا تهدف إلى الوصول إلى دولة مستقلة للفلسطينيين، بل أن هدفها الذي بات يتوضح أكثر فأكثر هو دمج فئة فلسطينية بالمنظومة السياسية الاقتصادية الأمنية الصهيونية.
وانطلاقاً من هذا التحليل ، يتوجب على قوى اليسار، أن تستنبط خطابها السياسي وتمارس دورها في م.ت.ف ، كما في أوساط الجماهير، من أجل استعادة هدف الصراع والحل التاريخي ، في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية وإدماجها في المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
نحن إذن أمام عملية استعادة لأصل الصراع ، لكن لا ينبغي علينا استسهال الأمر ، فهي ليست عملية ارتجالية ولا ميدانا للمزايدات ، انها تحدي المستقبل الذي يفرض علينا ثورة في الوعي ، وثورة في تفعيل وتطوير الحياة الداخلية للخروج من أزمتنا الداخلية الراهنة صوب النهوض السياسي والفكري والتنظيمي الديمقراطي ، وكذلك ثورة في تعزيز وتوسيع إطار التحالفات الوطنية الديمقراطية ، وتفعيل وتطوير الفعاليات الجماهيرية والسياسية ، وتطبيق شعار المقاومة الشعبية والكفاحية ضد الاحتلال في الضفة الغربية (ساحة الصراع السياسي الرئيسية اليوم ) بصورة منهجية وهادفة ، ستضمن بالضرورة استقطاب قطاعات واسعة من الجماهير في الداخل والخارج ، بما يضمن تحقيق البعد الثوري لعملية التوسع التنظيمي وأساليب النضال السياسية والديمقراطية والكفاحية ، والالتحام بالجماهير في علاقة تبادلية محكومة للوحدة والترابط الجدلي بين النضال الوطني التحرري والديمقراطي على المستويين الفلسطيني والعربي .
على أية حال ، إن المسألة لا تكمن في مجرد طرح الغاية والرؤية فحسب ، بل في كيفية تحقيق هذه الرؤية ، الأمر الذي يستدعي –عبر الحوار المقترح- تغيير الكثير من الشعارات ، والتأسيس لأنماط عمل واستراتجيات جديدة ، وهي على صعوبتها تحتاج إلى وضوح الرؤى المعرفية والسياسية بمنطلقاتها التقدمية ، بمثل ما تحتاج إلى أدوات نضالية جديدة أشبه "بكتلة تاريخية" ذات مضمون وطني وقومي ماركسي كنقطة انطلاق صوب التغيير المنشود ، وتشكل في نفس الوقت جزءاً لا يتجزأ من الإطار الأممي المناهض للإمبريالية وأدواتها العنصرية والرجعية ، كتلة تاريخية تبدأ أنويتها في كل بلد عربي على حدة برؤية تحررية وتقدمية ، وطنية وديمقراطية، تقوم على الالتزام السياسي والتنظيمي والمعرفي والأخلاقي بمصالح وأهداف العمال والفلاحين وكل الفقراء والمضطهدين ، لكي تمتد وتتواصل في الإطار القومي العربي كخطوة لاحقة ، بحيث تضم هذه الكتلة ، كافة القوى اليسارية الماركسية والمثقفين والمناضلين من أجل تحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية واستعادة بناء المشروع القومي النهضوي الديمقراطي العربي ، بما في ذلك هدف تفكيك وإزالة الدولة الصهيونية ، وإقامة فلسطين الديمقراطية العلمانية التي ستشكل إطاراً موضوعياً لحل المسألة اليهودية بعيداً عن كل أشكال التعصب أو العنصرية .
انني أطرح هذه الرؤية لكي أطلق من جديد حواراً شاملاً بمستويات فكرية وسياسية وتنظيمية إستراتيجية بين كافة قوى اليسار الماركسي العربي والفلسطيني، من أجل بلورة بديل تحرري وديمقراطي على المستويين الوطني والقومي ، يقطع مع النهج السائد وأدواته ومصالحه الطبقية ورؤاه السياسية الهابطـة.


2- كيف ترون طبيعة أزمة حركة التحرر العربية ، وسبل الخروج منها في إطار مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي ؟

لعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها، حيث انتقل النظام العربي بمجمله، من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق، إلى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي والاقتصادي كعنوان جديد، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق بين التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري المهيمن على النظام العربي من جهة، وبين التحالف الأمريكي – الإسرائيلي من ناحية ثانية، مما فاقم من مظاهر الإفقار والبطالة والحرمان، والاستبداد المرتكز إلى الأجهزة الأمنية، في ظل حالة غير مسبوقة من العزلة الهائلة الاتساع بين الشعوب وأنظمتها ، وهي حالة أسهمت بدورها في اتساع انتشار التيارات الدينية الأصولية "الإسلام السياسي" الذي قد يسيطر على المشهد السياسي الرسمي العربي بديلاً للأنظمة المتهالكة الراهنة إذا ما تم التوافق بينه وبين النظام العالمي الرأسمالي، الأمر الذي يؤكد على ضعف وتراجع فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية وتفاقم أزمتها الذاتية إلى درجة أوصلتها إلى هذه الحالة من الانكفاء وغياب التأثير في مجريات الوضع السياسي والمجتمعي العربي.
هنا تتمظهر المؤشرات والعوامل الذاتية، الدالة على أزمة كافة الأحزاب والفصائل والقوى التي تشكل في مجموعها حركة التحرر العربية ، فالأزمة في تقديري ليست مشكلة "تخلف وتقدم" فحسب على نحو ما يذهب إليه المثقف الليبرالي ، لان هذه الصيغة ، تخفي علاقة التبعية البنيوية لنظام العولمة ، كما تخفي دور الصراع الطبقي كمحدد رئيسي في صياغة مستقبل حركة التحرر العربية .
والسؤال هنا، إذا كانت تلك هي القضية ، وهذه هي الأزمة والطبقة المسؤولة عنها، وكان الحل، هو السير على طريق التحرر الوطني والديمقراطي والتنموي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صراعات وتحولات اجتماعية عميقة، تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها، فلماذا إذن تعثر سيرنا على هذا الطريق ؟ هنا يتضح بجلاء عجز العامل الذاتي ، الذي نستنتج منه، إن حركة التحرر العربية في ظل أوضاعها الراهنة ، لم تعد حركة ثورية بسبب انتقال معظم أطرافها إلى النهج البورجوازي وبالتالي إلى المواقع السياسية البورجوازية الحاكمة أو المشاركة فيها ، كما هو الحال في السلطة الفلسطينية ومعظم البلاد العربية .
من ناحية أخرى ، يبدو أن فجوة الانفصام بين النظرية الثورية وممارستها في فصائل وأحزاب الحركة التحررية العربية ، كانت –ولا تزال- واسعة إلى درجة التفارق والتناقض بينهما، وهذا ما يفسر بسهولة أسباب الهزائم المتتالية التي منيت بها الثورة بمختلف نواحي القصور والعجز التي يحفل بها تكوين وممارسات القيادات اليسارية، وعلى سبيل المثال فإن الغالبية العظمى من قيادات اليسار ورموزه بدلاً من أن تعيش بين جماهيرها الطبقية بين العمال وفقراء الفلاحين، وتتكلم لغتها وتربط مصائرها ومصائر أسرها بمصيرها ، عاشت نوعاً من الإنفصام الواضح بين الحزب و الفكر الثوري من ناحية والوجود الاجتماعي والجماهيري من ناحية ثانية .
إذن ، نحن أمام حركة تحرر عربية تعيش حالة من النكوص، تشير إلى طبيعة ازمتها الراهنة، التي تدل على العجز الواضح ، في ظروف ومستجدات يبدو فيها الباب مشرعاً أمام المشهد القادم، وأقصد بذلك مشهد " الإسلام السياسي".
ولذلك فإن النقد الجاد الكامل والصريح، هو نقطة البداية، لإعادة صياغة فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية ، إلى جانب إعادة صياغة أهداف الثورة التحررية الديمقراطية العربية، وممارستها على أساس علمي، بعد أن توضحت طبيعة الطريق المسدود الذي وصلته الأنظمة العربية، وانتهت إليه مسيرة هذه الحركة بسبب أزمة فصائلها وأحزابها عموماً، وأزمة قياداتها خصوصاً، التي عجزت عن توعية وتثقيف وتنظيم وتعبئة قواعدها وكوادرها لكي تنجز مهامها التاريخية، إذ أن هذه الأوضاع القيادية المأزومة، التي جعلت بلدان الوطن العربي، في المرحلة التاريخية المعاصرة ، من أقل مناطق العالم إنتاجاً للعمل الديمقراطي الثوري الطويل النفس القادر على حماية نفسه، والمنتج في المدى الطويل لتحولات سياسية ومجتمعية نوعية، ودائمة ومطردة التطور على هذه البقعة أو تلك من الأراضي العربية .
إن أزمة حركة التحرر العربية ، تستدعي المبادرة إلى دراسة الخصائص والمنطلقات السياسية والفكرية التي تميزت بها فصائل وأحزاب حركة التحرر في مجتمعاتنا طوال الحقبة الماضية، والتي ربما كان إهمالها في الماضي أو الخطأ في تحديد أبعادها وانعكاساتها على الحركات اليسارية أحد الأسباب الرئيسية لتعثرها وفشلها، ومن أهم هذه المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة :
أولاً : إشكالية القومية العربية والعلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية : حيث بات من الضروري أن تقوم القوى اليسارية العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيس في عملها ، بما سيضيف عمقاً جديداً لقواها بدلاً من أن يبقى كما كان الأمر حتى الآن ، عبئاً عليها وعامل إضعاف لها .
ثانياً : إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها : وهي اشكالية مرتبطة بتبعية بكل البلدان العربية ، كأجزاء متناثرة ، للنظام الرأسمالي المعولم وفق محددات قانون التطور اللامتكافئ، وبالتالي فإن وحدة التحليل الأساسية من منظور القوى الثورية التي تسعى إلى التغيير، تتحدد أساساً وحصراً بالمجال القومي الديمقراطي العربي الذي تستطيع فيه هذه القوى تعبئة نفسها بشكل فعال وأخذ زمام المبادرة على نحو قادر على خلق صيرورته النضالية الراهنة والمستقبلية .
ثالثاً : القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية : ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة دوراً أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها. إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دوراً هاماً في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف والرجعية .
رابعاً : الحاضر والماضي : هنا أقول بصراحة ، لابد من الوعي بأهمية العمل الفكري والسياسي الهادئ والمتدرج باتجاه القطيعة المعرفية مع كل رواسب التخلف في ماضينا، التي أتاحت عودة الماضي ليحكم الحاضر، او عودة الميت ليحكم الحي، وهذه العودة تتجسد في بلادنا اليوم على شكل اصوليات يمينية سلفية رجعية أو على شكل القوى اليمينية الحاكمة في الانظمة العربية، وكلاهما من جوهر واحد وان اختلف شكل أحدهما على الأخر وهذا ، نذير آخر حي بنوع المستقبل الذي تتحدث عنه تلك الأصوليات.
إننا لا نزعم –كيسار وطني و قومي ديمقراطي- أننا ننفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة .
وفي هذا السياق فإن رؤيتنا ، تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة في المجتمع العربي ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية ، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكنا بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي ، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق والسودان واليمن ولبنان والجزائر .

إننا ، نؤكد على أن اللحظة الراهنة من المشهد العربي، هي لحظة لا تعبر عن صيرورة ومستقبل وطننا العربي، رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض، أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة العمال والفلاحين وكل الكادحين والمضطهدين العرب، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن حقائق الصراع الاجتماعي / الطبقي ، والكامنة في قلوب وعقول هذه الجماهير التي سينبثق من بين صفوفها ، حركات وأحزاب يسارية وديمقراطية جديدة، تعيد إحياء وتفعيل الدور الطليعي المنتظر لحركة التحرر العربية، وهو أمر طبيعي يتوافق مع سنن الصراع وسنن التاريخ إذا ما بقيت فصائل وأحزاب الحركة التحررية العربية القائمة على ما هي عليه من ترهل وتراجع سياسي وفكري وتنظيمي وجماهيري .



3- تعيش المرأة الفلسطينية ظروفاً مضطربة موزعة بين الاحتلال وسلطة حماس والسلطة الفلسطينية والمنافي إضافة إلى ضغط القوانين والتقاليد، كيف يمكن تقييم واقعها ومستقبلها في ظل الأوضاع الراهنة ؟

الاستلاب والظلم والاضطهاد ، إلى جانب الحمل والولادة وتربية الأبناء ومسئولية البيت والعمل... كل هذه سمات رافقت المرأة الفلسطينية والعربية ، في مجمل تاريخنا القديم والحديث والمعاصر ، أدت إلى تحويل المرأة إلى شخصية مُستلبة ، فاقدة لوعيها بذاتها أو بالظلم الواقع عليها ، أو بدورها بعيداً عن سلطة الرجل سواء أكان أباً أو أخاً أو زوجاً.
والمفارقة أن أغلبية النساء في بلادنا يعتبرن هذه السمات ظاهرة طبيعية، بل ويتعاطين معها بنوع من الرضا والقبول ، دون أي نزوع ، أو قدرة على رفضها أو التذمر منها ولا تملك رداً عليها سوى أن تظل مكبوتة أو صامتة مستسلمة لـ "قدرها" المرسوم وفق عادات وتقاليد وتراث المجتمع المتخلف من حولها .
لذلك فإن الحديث عن أوضاع المرأة في بلادنا ، سيظل ناقصاً أو مجتزءاً إذا ما حصرنا تحليلنا او تشخيصنا لهذه الأوضاع في إطار الظروف الراهنة ، المحكومة بالاحتلال أو بسلطة حماس أو سلطة فتح فقط، بدون تشخيص وتفكيك العوامل والأسباب التاريخية ، التراثية والمجتمعية التي راكمت مجمل تلك السمات التي أشرنا إليها ، والتي أودت بالمرأة إلى ما هي عليه اليوم .
وبالتالي فإن النضال من أجل الارتقاء بدور المرأة ، لا يجب أن يتوقف أو أن ينحصر في قضايا اللحظة الراهنة، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل يجب أن يتخطى ذلك صوب الأصل، وأقصد بذلك طبيعة التطور الاجتماعي المشوه والمحتجز في بلادنا، فالمجتمع الفلسطيني – كما هو حال المجتمع العربي- مجتمع غير متبلور، أو في حالة سيولة طبقية، متخلف تابع مشوه، يجدد التخلف في إطار العلاقات الرأسمالية التابعة، الرثة، التي تعيد إنتاج النظام الأبوي، ونظام القهر والاستغلال الطبقي، الذي يحمل في طياته أبشع مظاهر الاضطهاد والاستغلال للمرأة، من حيث عدم مساواتها في البيت او المدرسة مع أخوانها من الذكور ، أو في العلاقة مع زوجها ، حيث يتحدد وجودها وهويتها الاجتماعية، عبر شطب وجودها المستقل أو المتميز ، ويتم التعامل معها بكونها زوجة فلان ، والأمر كذلك مع والدها أو أبنها حيث يقال بأنها بنت فلان أو ام فلان ، وكذلك الأمر بالنسبة لحرمانها من مواصلة تعليمها الجامعي – إلا في حدود ما تسمح به العائلة ، أو الأعراف السائدة من تعليم أو قراءات محددة لا يجوز الاطلاع على سواها، إلى جانب حرمانها من المشاركة الندية في أية حوارات عائلية ، أو مجتمعية ، ناهيكم عن رفض الاعتراف بشهادتها في موازاة شهادة الرجل في المحاكم، وحرمانها المشاركة في العمل السياسي التي تعني حرمانها من حرية الرأي والرأي الآخر، بما في ذلك كبت رغباتها الفكرية والإبداعية بصورة شبه مطلقة ، وكل هذه الممارسات جعلت المرأة – في بلادنا – شخصية مستلبة ، محكومة بشخصية الرجل ، ومندمجة إكراهياً في ذاته أو شخصه ، بما أدى – تاريخياً وراهناً – إلى فقدان الأغلبية الساحقة من النساء ، للقدرة على التعبير عن ذواتهن أو إراداتهن طالما بقيت أوضاع ومظاهر التخلف قائمة، وقابلة للانتشار والتراكم والتجدد في ظل مجتمع خاضع ومستلب من الاحتلال الصهيوني، وفي ظل نظام كومبرادوي – بيروقراطي تابع ، من حيث الجوهر بين فتح وحماس، إلى جانب بقاء المرأة فاقدة لقدرتها أو فرصتها على تحقيق استقلالها الاقتصادي ومن ثم الاجتماعي، بما يزيد من حدة تدهور أوضاعها بحيث تصبح وعاءاً يُفَرِّغ فيه الرجل كل أشكال الاضطهاد والظلم الطبقي الذي يتعرض له ، بحيث يمكن القول بحق، أن المرأة عندنا تتعرض لكل أشكال استغلال والظلم والاضطهاد الوطني ، والمجتمعي والطبقي والعائلي ، بحيث يمكن وصفها فعلاً بأنها مضطهدة المضطهدين ، خاصة مع تفاقم أوضاع الهزيمة والإفقار ، والانتشار غير المسبوق للتيارات الدينية أو ظاهرة الإسلام السياسي، التي لم يكن ممكناً ظهورها بهذا الاتساع، لولا تعمق مظاهر التبعية والتخلف والخضوع عبر السلطة و الأنظمة الحاكمة، التي وفرت –عبر استبدادها وفسادها وإفقار شعوبها- كافة الفرص والظروف الملائمة لانتشار التيارات الأصولية الرجعية ، التي "ارتفعت راياتها" وعلت أصوات شخوصها وانتشرت الفضائيات الناطقة باسمها، علماً بأن أحداً لم يسمع منهم موقفاً يدعو إلى مقاومة الاحتلال الصهيوني بعد حزيران 1967 حتى عام 1987، أو الدعوة لمقاومة الهجمة الإمبريالية الأمريكية على العراق أو إدانة مواقف دول الخليج والسعودية، وسياساتها الخاضعة للشروط الأمريكية ، واكتفوا برفع أصواتهم بالدعوة إلى إعادة إنتاج الأصوليات القديمة الشكلانية، المرتبطة بالاستبداد والقهر ورفض مفاهيم العقل والعلم والتنوير والوطنية والقومية لحساب ما يسمى بـ "الأمة الإسلامية" أو " الخلافة العثمانية " البائدة، إلى جانب ممارسة أشكال التزمت والرفض –المباشر وغير المباشر- ضد أي مظهر حضاري ينسجم مع حرية المرأة ومساواتها أو يعزز دورها الطليعي في المجتمع.
إن طرحنا لهذه الخصوصية المرتبطة بقضية المرأة في بلادنا ، يستهدف التصدي لهذه النظرة الموروثة المستقرة حتى الآن في الذاكرة الجمعية لمجتمعنا ، كامتداد لاستقرارها في العلاقات الاجتماعية و العادات و التقاليد و الأعراف والثقافات التراثية الموروثة المشوهة، التي تتجدد يومياً عبر وسائل الاعلام والمنابر والندوات الدينية والفضائيات، في سياق عملية إعادة إنتاج التخلف ، بما يجعل من التصدي لكل هذه العوامل الموروثة السالبة، قضية ترتبط بالتصدي لكل مظاهر وأدوات التبعية والتخلف والقهر –على الصعيد الداخلي-، بكل ابعادها السياسية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية من ناحية، وللعدوان الامبريالي الصهيوني من ناحية ثانية ، ذلك إن أي حديث عن خصوصية المرأة ، أو قضاياها بمعزل عن هذه المظاهر، لا يرتقي في أحسن الأحوال إلا إلى شكل من أشكال الترميم السطحي أو الشكلي لبنيان مهترئ ، فالعمل الإصلاحي لا يحل القضايا الأساسية المتعلقة بحرية المرأة ، و لا يحقق لها المساواة في الحقوق المدنية و الاجتماعية .
إن المرأة الفلسطينية التي شاركت في مسيرة الكفاح الوطني ، وَأجَّلت بصورة طوعيه أو اكراهية، نضالها من أجل حقها في المساواة مع الرجل في المرحلة السابقة ، من حقها على كافة القوى الوطنية الديمقراطية عموماً واليسارية خصوصاً ان نقف إلى جانبها بكل وعي و التزام ، دفاعاً عن كل حقوقها في المساواة و الحرية الشخصية و المدنية القانونية و غير ذلك من الحقوق ، بما يحقق إنهاء حالة اغتراب المرأة الفلسطينية داخل هذه القوى والأحزاب أولاً، تمهيداً لتفعيل دورها وأنشطتها ، بما يحقق إنهاء إغترابها على صعيد المجتمع .
في ضوء ما تقدم ، فإن من أهم أولويات فصائل وأحزاب اليسار الفلسطيني، في سياق عملية النضال الوطني الديمقراطي ، الوقوف ضد كل المحاولات التي تهدف إلى خنق صوت المرأة الفلسطينية و حقها في التعبير عن رأيها و مطالبها القانونية المجتمعية العصرية الحديثة التي تتطلع إليها ، و بالتالي فإن الانتصار في هذه القضية سيشكل الخطوة الرئيسة عبر العمل المنظم المشترك بين الرجل و المرأة معاً ، نحو تقدم مجتمعنا على طريق التطور الديمقراطي العقلاني الحديث عبر الانعتاق من كل مظاهر التخلف و التبعية و الفقر و القهر و الاستبداد .
فالتحرر الحقيقي للمرأة من كل سلبيات التراث التاريخي والعادات والتقاليد والأعراف البالية، ومن قيود الأنظمة والقوانين المعمول بها في النظام العربي والسلطة الفلسطينية ، خاصة حكومة حماس ، هو الذي يوفر الضمانات الفعلية ، القانونية والمجتمعية للمرأة في اتخاذ القرار في كل الميادين و على كل المستويات ، و المشاركة في الأنشطة السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و الأسرية ، هذا هو التعبير عن حقيقة الارتباط الوثيق بين قضايا المرأة الفلسطينية و قضايا مجتمعها في الاستقلال الوطني و النهوض و التقدم الاجتماعي و التنمية و العدالة الاجتماعية و الديمقراطية بالالتحام العضوي بالحامل القومي العربي من حولنا، و هي قضية يتحمل مسؤوليتها الطليعة الديمقراطية المثقفة من الرجال و النساء على حد سواء .


 


4- كيف ترون دور الطبقة العاملـة في فلسطين, و ما هي ابرز مهمات اليسار الفلسطيني, وخاصة الجبهة الشعبية, في المرحلة الراهنة؟


الكدح ، و البؤس و الشقاء و المعاناة واستغلال صاحب العمل ، والتشتت أو التبعثر في تجمعات أو ورش صغيرة وشبه عائلية ، وغياب حالة الاستقرار أو الثبات في العمل ، وعدم التحاق معظمهم في الأطر النقابية ،هي الصفات التي اتسمت بها أوضاع عمالنا الفلسطينيين ، إذ طالما عانوا من الفقر و البطالة و من تدني الأجور و غياب التشريعات المنصفة لحقوقهم .
إن "الطبقة" العاملة، كما هو حال كل الفقراء والكادحين في بلادنا، مضطرة إلى بيع قوتها بعض النظر عن المشتري ، رأسمالي إسرائيلي، أو "رأسمالي" فلسطيني، صاحب معمل أو منشأة، أو تاجر، او مقاول ، أو مُهَرِّب أو طفيلي او متنفذ في السلطة ...إلخ، وما يفرضه هذا التنوع في تشويه ملامح هذه الطبقة ومكوناتها من ناحية خضوعها الاضطراري من أجل تأمين لقمة عيشها، وهو خضوع –مرتبط بهذه الدرجة أو تلك – بغياب وعيها لذاتها، أو لمصالحها، وبالتالي غياب وعيها بحجم الظلم الواقع عليها، نظراً لخصائص هذه الطبقة وسماتها التاريخية والراهنة، في اطار التخلف العام للعلاقات الرأسمالية الانتاجية، وسيادة العقلية الريفية والقدرية والجهل ومخاطر البطالة وتزايد العاطلين عن العمل بنسبة عالية في أوساط الشرائح الفقيرة، إلى جانب غياب الدور الفعال لأحزاب اليسار في أوساطها، مما انعكس على أدوارها ووعيها السياسي والنقابي ومن ثم تفككها وتشرذمها دون أي رابط بين أعضائها، ومن ثم توزع ولاءاتها بصورة عفوية بين حكومة حماس في غزة وحكومة فتح في رام الله ارتباطاً بحجم الدعم أو الإغاثة أو الكوبونة أو تأمين مصدر الرزق والمعيشة.
وفي سياق الحديث عن الطبقة العاملة ، فإننا لا نستطيع إغفال أن الكثير من المصاعب والمصائب الاقتصادية والاجتماعية بسبب الحصار والانقسام والبطالة، تكبل شرائح واسعة من عمالنا ، الذين يعيشون تحت خط الفقر بالذات ، وتحكم عليهم بتجرع المعاناة اليومية ، بحيث يمكن تحولهم –بصورة تدريجية واكراهية- إلى مجموعات اجتماعية معدمة ، يسود في اوساطها ما يمكن تسميته بظاهرة الانفصال الطبقي وما يرافقها من مشاعر ومواقف عفوية سالبة تجاه مجتمعهم المحيط، ، لذلك لا غرابة –إذا استمرت حالات الفقر والإفقار عندنا- بوتائرها الراهنة ، من تشكل كتلة ثابتة من السكان –خاصة في قطاع غزة بسبب تزايد الافقار الناجم عن الحصار والانقسام - لا يتميزون بمعاناتهم وبؤسهم فحسب ،وإنما قد يتراكم في وعيهم العفوي البسيط ، بحكم شدة البؤس، حالة من الشعور بالانفصام عن المجتمع المحيط، بسبب استمرار وتفاقم "الوضع المعيشي الصعب وانعدام اليقين حول المستقبل الوطني يدفع بقطاعات واسعة من الجمهور الفلسطيني ، وتحديدا الفئات العمالية العاطلة عن العمل والمهمشة ، إلى منح الأولوية للقضايا المعيشية –بأي ثمن- على حساب القضايا الديمقراطية" ، وعلى حساب القضايا الوطنية أيضا ، بما يشير إلى إمكانية تحولهم إلى "بروليتاريا" رثة، أو شرائح من المعدمين الذين يسهل استغلالهم في كل أشكال الجرائم والأعمال غير المشروعة المنظمة وغير المنظمة ، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، بما في ذلك تحولهم إلى مادة للتخريب من قبل العدو ، إذا لم يجدوا –خاصة في ظروف الحصار والانقسام الراهنة- من يأخذ بيدهم ويدافع عن قضاياهم من أجل تحسين أوضاعهم، عبر اطر التكامل الاجتماعي والمعايشة والتنظيم في الأطر النقابية ، والجماهيرية، والحزبية.
لكن على الرغم من كل هذه الأوضاع ، تظل الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وكل الفقراء والكادحين في بلادنا ، المحدد والعامل الرئيسي للنضال التحرري الوطني والديمقراطي، الأمر الذي يفرض على قوى اليسار تحمل مسئولياتهم في الاستنهاض الثوري الديمقراطي لجموع الفقراء والكادحين، بما يمكنهم فعلاً من ممارسة دورهم الطليعي والرئيسي في قيادة النضال الوطني التحرري والديمقراطي ، من خلال امتلاكهم الرؤية الواعية للظروف الواقعية والثورية من جهة ، ومن خلال القدرة على التلاحم والتنظيم لكتلة اجتماعية تمثل الأغلبية السكانية ، بحيث يمكن الحديث عن تحالف طبقي و سياسي واسع ، في مرحلة تتزايد فيها عملية "تكديح" وإملاق فئات واسعة من الجماهير الشعبية . وهذا هو طريق كسر "الحلقة المفرغة" التي رسمها التحالف الصهيوني/الامبريالي.
لهذا يصبح طريق التقدم، منوطاً بشكل أساسي بالطبقة العاملة، والفلاحين الفقراء، وبالماركسية كمنهجية في البحث والدراسة والتحليل، وبالتالي كمنهجية في تأسيس الأيديولوجيا المطابقة لمصلحة هؤلاء، وهنا بالضبط تتبدى الحاجة إلى تطور وتفعيل أحزاب اليسار الماركسي وانتقالها من حالة القصور والعجز الراهنة إلى حالة التفاعل والتوسع في أوساط الجماهير الشعبية الفقيرة عموماً والعمال خصوصاً.
أما أبرز مهمات اليسار عموماً والجبهة الشعبية خصوصاً ، فهي ترتبط بدور الجبهة في إعادة صياغة التعامل مع الجماهير الشعبية عموماً، والطبقة العاملة خصوصاً، في كل الأراضي الفلسطينية وفي المنافي ، وفق خصوصية كل تجمع فلسطيني، وبما يؤمن قدرتها ليس فقط في الإجابة على كافة أسئلة جماهير الطبقة العاملة وكل الفقراء والكادحين فحسب، بل أيضاً قدرتها في الانتشار والالتحام بين صفوف هذه الشرائح، وإدخال الوعي في صفوفها بما يمكنها من التنظيم تمهيداً لقيادة العملية النضالية في الصراع ضد العدو الصهيوني من ناحية وفي إدارة ومجابهة الصراع الطبقي والاستغلال والقهر الداخلي من ناحية ثانية ، انطلاقاً من قناعة الجبهة بأهمية الترابط الفعال والعميق ما بين البرنامج السياسي التحرري ، والبرنامج الاجتماعي في اطار مهماتها الراهنة التي نلخصها فيما يلي :
1- استمرار الدعوة والتحريض الشعبي الداخلي من أجل إنهاء هذا الانقسام الكارثي واستعادة وحدة صفوف شعبنا في الوطن والشتات بكل تلاوينه السياسية من أبرز المهام الرئيسية الملحة راهناً.
2- التأكيد على الأهداف الوطنية في "حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس كهدف مرحلي على طريق استرداد الحقوق التاريخية وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية.
3- التمسك بحق شعبنا في مقاومة الاحتلال وطرده من بلادنا، عبر ممارسة كافة أشكال النضال الكفاحي المسلح، والنضال السياسي والجماهيري .
4- التأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، من منطلق إدراكنا أن معركة الصراع على م.ت.ف من أجل استعادة دورها وبرنامجها ومشروعها الوطن التحرري ، لن تحسم بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج لجهد وتحشيد وطني وجماهيري شامل يبقى مُنْشَدَّاً لهدف الحفاظ عليها كضرورة وطنية راهنا، وفي المدى المنظور، بالاستناد إلى ميثاقها وثوابتها.
5- تأطير أوسع القطاعات الشعبية والجماهيرية وتفعيل نضالها اليومي الضاغط من أجل وقف المفاوضات العبثية والضارة مع العدو الإسرائيلي.
6- رفع راية الدفاع عن الثقافة الوطنية والتقدمية في مواجهة ثقافة المهادنة والتطبيع .
7- النضال من أجل رفع الحصار وفتح المعابر، بما لا يجعل من الحصار عاملاً من عوامل تشجيع الانقسام وتكريسه.
8- رفع راية التحرر الاجتماعي والديمقراطي : الحريات العامة / تجريم الاعتقال السياسي / حقوق النساء والمساواة / الحقوق النقابية وتغول الأجهزة الأمنية على الحياة العامة في الضفة والقطاع.
9- استنهاض الطاقات من أجل تأمين الدعم المالي لأبناء شعبنا داخل الوطن وخاصة المتضررين من إجراءات الاحتلال – الشهداء / الأسرى / الجرحى / أصحاب الأرض والبيوت المصادرة أو المهددة بالمصادرة .. وكل أنشطة تعزز الصمود والمقاومة . وتفعيل وتوسيع عملنا من أجل توفير كل أشكال الدعم لشعبنا وبخاصة في قطاع غزة وموجبات إغاثته وإعادة إعماره.
10- العمل والمشاركة في كل دوائر الفعل والنشاط التي تلاحق قادة العدو الصهيوني وعسكرييه كمجرمي حرب وتحميل دولة العدو الإسرائيلي مسؤولية ما ألحقه عدوانها من قتل وتدمير في قطاع غزة، والاستفادة من السوابق الدولية على هذا الصعيد.
11- العمل على تنظيم وجمع وتأطير التيار الوطني الديمقراطي العريض في الساحة الفلسطينية ونواته ورافعته قوى اليسار الماركسي، ورفع راية النضال الطبقي من اجل حقوق العمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء في بلادنا . وفي ذات الاتجاه تأتي مهمة دعم وإسناد إطلاق طاقة الحركات الاجتماعية المختلفة – النسوية / الشبابية/ النقابية / بصفتها أيضاً تعبيرات نضالية محددة بالمعنى السياسي والاجتماعي .
12- تفعيل دورنا وعلاقاتنا مع القوى اليسارية والقومية الديمقراطية العربية بما يعزز دورنا جميعاً في إطار الائتلافات الوطنية والقومية على الصعيدين القطري والقومي.
13- تعزيز الصداقة وتوطيد التعاون والنضال المشترك مع كافة قوى التحرر والتقدم ، وحركات مناهضة العولمة في النضال العالمي المعادي للإمبريالية .
وهذا يتطلب تفعيل وتطوير ممارساتنا النضالية ، بكل أبعادها الفكرية والتنظيمية والسياسية والكفاحية والجماهيرية ، بما يقصر الطريق صوب استعادة الجبهة لدورها الفعال في إطار الحركة التحررية الديمقراطية العربية .
 


5- كيف تقيمون موضوع العلاقة بين اليسار الفلسطيني وحركات الإسلام السياسي ؟


لعل أكثر ما يشغل أذهان القوى الديمقراطية واليسارية تجاه حركات "الاسلام السياسي" ، هي مرجعياتها السلفية المتزمتة ، وانعكاس ذلك على المسار التحرري والديمقراطي لمجتمعاتنا ، فكما أن هذه القوى تبدي رفضا قاطعا إزاء تغييب الأنظمة والطبقات الحاكمة لهذا الاتجاه ، فإنها تنظر بنوع من التشكك والريبة إزاء ما يمثله الإسلام السياسي من موقف تجاه هذه المسألة، حيث أن حركات الإسلام السياسي تتعاطى مع قضية الديمقراطية، بطريقة استخدامية ، كآلية للوصول إلى السلطة السياسية ومن ثم الاستفراد بها، وتحويلها من مهدٍ للتغيير الديمقراطي ، والتطور السياسي والمجتمعي إلى لحد لهذه العملية كلها، وما يترتب على ذلك من تراكم لأسباب ومظاهر الاستبداد، ليس فقط بفعل العامل الخارجي (الاحتلال) وإنما أيضاً من القيود التي يتم فرضها على عملية النهوض والتطور الديمقراطي لمجتمعاتنا، عبر تقييد وقمع حرية الرأي والتعبير والمعتقد، إلى جانب الموقف الرجعي من المرأة ، الأمر الذي راكم وَوَلَّد مزيداً من مظاهر القمع والخوف في صدور الناس.
أما فيما يتعلق بظاهرة " الإسلام السياسي " فلابد من الاقرار بأن النمو المضطرد لما يعرف "بالإسلام السياسي" أصبح جزءاً من الحياة اليومية ليس على صعيد شعبنا الفلسطيني فحسب , وبل وعلى نطاق الشعوب العربية والاسلامية الأخرى . ولسنا بصدد إجراء تحليل لأسباب نمو هذه الظاهرة أو عواملها ... بل إن معالجتنا تنطلق من حقيقة أساسية مفادها , إننا لا نستطيع الحديث عن رؤية برنامجية للمرحلة الجديدة، يتم فيها تجاوز حركات المقاومة الإسلامية، بدون معالجتها والتفاعل الحواري معها بصورة ديمقراطية, ، وعلى وجه التحديد والحصر، حركات المقاومة المتمثلة في حزب الله وحماس والجهاد خصوصاً ، لأن ذلك يتنافى مع إمكانية القراءة الموضوعية للواقع العياني.
فمنذ نهاية السبعينات، والحديث متصل عن صعود وانتشار الحركات الأصولية الإسلامية، التي أعطتها هزيمة حزيران قوة دفع جديدة. سرعان ما وجدت مجالها الأرحب والأخصب في ظل سياسية الانفتاح الساداتية ثم معاهدة كامب ديفيد، واستعادة القوى البيروقراطية المتنفذة والبورجوازية الكمبرادورية وبقايا رواسب الأنماط القديمة المتخلفة ، لدورهم المسيطر على السلطة في مصر وكل البلدان العربية ، الأمر الذي مَكَّن الحركات الأصولية من أن تقدم مشروعها الأيديولوجي والسياسي والمجتمعي الذي اتخذ –لدى بعض فروع هذه الحركات- طابعاً قتالياً وتضحوياً مميزاً ضد الاحتلال الصهيوني ، لكن هذا المشروع ظل في شكله وجوهره معتمداً على عنصرين أساسيين ، الأول : قوامه العودة إلى الأصول السلفية والتراثية كما هي دون أي تجديد أو استنارة أو تطور عقلاني حديث، عبر النقل الجامد والمنغلق للنص الديني . الثاني : تربية وتثقيف أعضائها وفق منهجية رفض الآخر، المتمثل في كافة أطراف حركات التحرر العربي (اليسارية والقومية والوطنية) وتكفيرهم بذريعة منطلقاتهم الفكرية العلمانية الديمقراطية بمختلف ألوانها .
غير أن ما يميز الأصولية الإسلامية ، في شكلها العربي عودتها الصارخة إلى مركز الفعل في الأوساط الشعبية العفوية الفقيرة التي أيدت والتحقت في صفوف الحركات الاسلامية ، من منطلقات سياسية ومجتمعية ، وبذلك استطاعت هذه الحركات –في ظروف الهزيمة السياسية والتراجع المجتمعي – أن تحقق حالة غير مسبوقة تاريخياً من الانتشار ، بعد عقود من التهميش والعزلة والكمون الذي عاشته ، بتأثير المرحلة الناصرية والمد القومي التحرري وانتشار الافكار التنويرية والعقلانية والاشتراكية العلمانية، ثم مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني منذ عام 1967 حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي التي كانت ايذاناً بولادة مرحلة التراجع والهبوط السياسي والانحطاط المجتمعي الذي انتشر في ربوع البلدان العربية منذ ذلك التاريخ، وشكل بدوره بداية الانتشار الفعلي للحركات الإسلامية الأصولية التي لم يكن ممكناً أن تنتشر في غير هذه الظروف.
ومع هذا الانتشار غير المسبوق، انتقلت الحركات الاسلامية الأصولية من حالة التهميش ، إلى حالة التأثير والفعل ، ليس لنشر منطلقاتها وآرائها فحسب ، بل أيضاً لتمارس – بصورة مباشرة وغير مباشرة- نوعاً من الاستنفار لأدواتها الايديولوجية أو الفكرية الغيبية المنغلقة ، في محاولة لمواجهة الفكر التنويري العقلاني، الوطني والقومي، لتجعل من تهديم مفاهيم التنوير والعقلانية والحداثة والليبرالية والعلمانية والمواطنة والدولة المدنية والوحدة العربية والاشتراكية غايتها الأساسية الأولى ، ومن ثم استخدام الدين السياسي ، كأداة مصالحة مع الواقع المرير وأدواته الطبقية ، الرأسمالية، الداخلية والخارجية .
أما بالنسبة للعلاقة بين اليسار الفلسطيني وحركات الاسلام السياسي ، أود التوضيح هنا أنني لست في وراد تناول موضوعة " الدين " من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية , فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة هامة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان واجبنا النضالي يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والاستقلال والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الاسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فهي تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع.
أما بالنسبة للعلاقة الخلافية بين اليسار الفلسطيني وحركات الإسلام السياسي، فهي تستند – من وجهة نظري - إلى التحليل الموضوعي الذي يؤكد على ان الاساس في هذه الحركات هو دعوتها الى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...، عبر منطق غيبي تراجعي عاجز عن بلورة برنامج سياسي ديمقراطي اجتماعي تنموي ، وبالتالي لن يكون امامه سوى اعادة انتاج نفس علاقات التبعية والتخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائدة في بلادنا ، لكن بصورة رثة في إطار سلطة أو سلطات أكثر شموليةٍ واستبدادٍ وتبعيةٍ من كل السلطات التي شهدتها مجتمعاتنا العربية .
وعلى الرغم من ذلك، فإن المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، تؤشر إلي أننا سنواجه –مع حركات الاسلام السياسي- ظروفا أكثر صعوبة وأكثر مجافاة, ما يفرض على قوى اليسار الفلسطيني والعربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديموقراطية مع حركات المقاومة الإسلامية بمختلف مذاهبها ، بحيث تحرص على ان لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري الذي يحكم علاقتنا بالعدو الإمبريالي الصهيوني، انطلاقاً من رؤيتها تجاه هذه الحركات ، التي تؤكد على "أن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على الرغم من أية خصوصيات تمثلها، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأن الجبهة الشعبية ترى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل الوطني، وذلك على قاعدة الوحدة والصراع كقانون يجب أن ينظم العلاقات بين القوى الوطنية في أوساط الشعب الفلسطيني"
أما بالنسبة لعلاقة اليسار مع قوى الإسلام السياسي فهي "علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع السياسية والاجتماعية، وتبعاً للتناقضات التناحرية مع العدو الصهيوني حيث يمكن أن تتوفر حالة من التقاطع على الصعيد السياسي في اللحظة التي تقف فيها قوى اليسار والقوى الإسلامية على أرضية المعارضة والمواجهة لمشاريع التسوية الأمريكية – الإسرائيلية ، بينما على الصعيد الاجتماعي فإن التعارض والتناقض أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية حرية المرأة، حرية الاعتقاد وحرية التعبير والاجتهاد وحرية الإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها" .
إن وضوح هذه الرؤية، ومن ثم البناء عليها بالنسبة لعلاقة القوى اليسارية مع القوى الإسلامية يتطلب من هذه الأخيرة أن تتخذ موقفاً واضحاً من التوجهات التالية:
أولا: النضال من أجل تحرير الوطن من الاحتلال
ثانيا: رفض التبعية بأشكالها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية
ثالثا: رفض التطبيع بكافة أشكاله ورفض الصهيونية كعقيدة معادية لشعبنا وللشعوب العربية وحضارتها وتراثها وقيمها.
رابعا: تغليب التناقضات الرئيسية على الثانوية في هذه المرحلة.
خامسا: النضال من اجل الديمقراطية وترسيخها كنهج حياة مجتمعي يضمن الحرية بكافة أنواعها وفي مقدمتها حرية المعتقد.
هذه هي ابرز ملامح وسمات المرحلة السياسية الجديدة كما نقرؤها في اللحظات السياسية الراهنة.
أخيراً إن احترامنا للأديان عموماً والتراث الديني الإسلامي خصوصاً، يتطلب منا –عبر الحوار الديمقراطي- رفض استخدام الدين كأداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وحرية الرأي والرأي الآخر، وكذلك رفض اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد ضد الآراء والأفكار والعقائد الأخرى.

6- اليسار في حالة تراجع كبير في العالم العربي وفي أزمة بنيوية عميقة وشاملة, كيف تقيمون ذلك؟ و ما هي سبل النهوض به؟

الأزمة مصطلح طبي يشير إلى المرحلة الحادة من صيرورة ما ، حيث يتأكد الشفاء ، أو الموت أو التأجيل ، وهو تعريف ينطبق بصورة مباشرة على عوامل القصور الذاتية أو المرض الذي استشرى في جسم انساني أو اطار حزبي أو مجتمعي محدد، بحيث يتم تشخيص الأزمة في إطار الذات / الجسم / الحزب .
ومع اقراري بأهمية العوامل الذاتية في مراكمة عوامل الأزمة التنظيمية والفكرية والسياسية في بعض فصائل وأحزاب اليسار العربي ، ومراكمة عوامل الأزمة البنيوية الشاملة في ما بقي فيها ، إلا أنني أرى أن تناول الأزمة عبر عواملها الذاتية فحسب سيؤدي بنا إلى استنتاجات أحادية أو ذاتية ناقصة، تظل بحاجة إلى توأمها الموضوعي الذي يضمن توفير عناصر التحليل العلمي ومن ثم توصيف وتقييم الأزمة بصورة صحيحة.
لكن على الرغم من أهمية العوامل الذاتية ، ودورها الرئيسي في مراكمة أزمة اليسار العربي إلا أنه لا يجوز القفز عن العوامل الموضوعية المتمثلة في طبيعة التطور التاريخي ، القديم والحديث والمعاصر للمجتمعات العربية، سواء من ناحية عدم انطباق التعاقب الحتمي لانماط الانتاج أو التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية ، كما تضمنتها الأدبيات الماركسية أو المادية التاريخية في سياق الحديث عن تطور المجتمعات البشرية، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية تطور المجتمعات في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا عموماً والبلدان الشرقية أو المجتمعات العربية الإسلامية خصوصاً ، حيث خضعت هذه المجتمعات لأشكال عديدة من السيطرة الاستعمارية، أدت إلى مفاقمة أشكال ومظاهر التخلف والتبعية وصولاً إلى خضوعها وارتهانها واحتجاز تطورها الاجتماعي (الطبقي) والاقتصادي ومن ثم تحولها إلى سوق استهلاكي عبر اداوت كومبرادورية أو بورجوازية رثة تابعة ، تعيد إنتاج التخلف وتجدده في مجتمعاتنا بذرائع دينية وتراثية ، وبوسائل القمع والاستبداد الداخلي والخارجي .
إن الاشارة إلى الظروف الموضوعية ، لا تستهدف أبداً إيجاد أي مبرر للعامل الذاتي (أحزاب وفصائل اليسار العربي) في عجزه أو تقاعسه أو فشله عن مجابهة هذا الواقع الموضوعي، بقدر ما أود التأكيد على أن الوعي العميق بمسار التطور التاريخي والراهن، وفق محددات الصراع الطبقي، للواقع الاجتماعي الاقتصادي العربي، عبر تشخيص أسباب وعوامل الفقر التخلف والتبعية والارتهان للمشروع الإمبريالي / الصهيوني ، كفيل بمراكمة المقومات الذاتية على المستوى الحزبي ، وعلى المستوى الشعبي الجماهيري المهيأ تماماً – بحكم معاناته واستلابه على الصعيدين الوطني والطبقي- للالتحاق بعملية المواجهة الثورية والديمقراطية المطلوبة لتجاوز هذا الواقع المرير ، لكن يبدو ان عوامل الاستنهاض الثوري الذاتي، في مجمل أحزاب اليسار العربي باتت اليوم في حالة شديدة من الضعف والتراجع، غير مؤهلة –حتى اللحظة- لهذه المجابهة مما وفر بالتالي فرص تراكم عوامل الأزمة فيها.
وهنا لابد من أن نواجه أنفسنا بالسؤال التالي : إذا كانت الأوضاع الراهنة المتمثلة في استلاب الوطن، و استمرار هذه الغطرسة و العدوانية الهمجية الأمريكية - الصهيونية ضد شعوبنا من جهة، و الفساد والمحسوبيات و سرقة قوت الشعب والصراعات الدموية الداخلية وانتشار التيارات الدينية السلفية ، وغير ذلك من المظاهر الأخرى المرتبطة بمصالح التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري في بلدان النظام العربي من جهة أخرى، تشكل أرضية و مناخاً محفزاً ودافعاً للإنتساب إلى فصائل وأحزاب اليسار ، فلماذا لم تتوسع هذه الأحزاب والفصائل تنظيميا في هذه المرحلة من الصراع و التناقضات الخارجيه و الداخلية ، ولماذا أيضا لم تستطع توفير الكوادر اللازمة للبناء التنظيمي ومتابعته ؟ والجواب بصراحة يكمن في استمرار مراكمة عوامل ازمتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، بالإضافة لعوامل أخرى موضوعية وذاتية متعددة . إذن ، ما هو المطلوب لتفعيل هيكلية أحزابنا اليسارية العربية لكي تعمل وفق إيقاع منتظم يتناسب مع معطيات المرحلة وضروراتها النضالية القومية والديمقراطية؟
إن رسم أو وضع تصور لمغادرة الأزمة وتجاوزها يجب أن يبدأ أولا عبر المراجعة النقدية لكل مكونات الخطاب السياسي وآليات العمل التنظيمي والكفاحي والمطلبي ، طوال العقود الأربعة الماضية، -شرط وضوح الهوية الفكرية الماركسية ومنهجها- ، نظرا لأولويتها كحلقة مركزية توفر الأرضية التي تـنبنى عليها الحلقات الأخرى (التنظيمية والسياسية والكفاحية والمجتمعية) بصورة موضوعية ومنضبطة.
إن المفصل الأساسي في أزمة اليسار العربي يتحدد –بصورة رئيسية - في العجز عن بلورة الرؤية الفكرية لتشخيص واقع مجتمعاته وبالتالي عجز في تأسيس "الوعي المطابق للواقع المعاش بكل مكوناته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية حيث ظلت تلك الرؤية أسيره او تابعة بصورة ميكانيكية لمحددات الرؤية الفكرية السوفيتية ودافعها وسياساتها الاستراتيجية والتكتيكية . .
إن نقطة البدء لعملية التصدي للوضع المأزوم ، و الارتقاء بالعامل الذاتي كعقل جمعي ، تتطلب توفير عنصر الوحدة الجدلية بين الوعي و الممارسة لدى كل عضو من اعضاء هذا الحزب أو ذاك ، في كل ما يرتبط بمفهوم الحزب و دوره ووظيفته و آلياته.
وفي سياق هذه العملية أو هذا الوضع، علينا أن نلحظ إشكالية الوعي/الفكر، الذي اتسم بالعفوية وبالاختلال والهبوط باتجاه حالة من التوهان المعرفي، والفوضى الفكرية ، والليبرالية الرثة وجوهرها الانتهازي، إلى جانب مظاهر التدين الشكلي التي بدأت في الظهور مؤخراً ، وهي تراكمات اشكالية تعود إلى أسباب كثيرة ومتنوعة، من أهمها :
1- القصور والعجز في تحليل التغيرات البنيوية في التركيب الاجتماعي وتطوره التاريخي والراهن.
2- عجز قوى اليسار في تحويل الرفض الجماهيري لمظاهر الخلل في السلطة او النظام إلى قوة جماهيرية، ديمقراطية ضاغطة يحسب حسابها. بسبب فشل هذه القوى في تحويل معظم القضايا التي تتبناها في برامجها الى قضية عامة تتبناها الجماهير الواسعة وتتجمع وتناضل من اجلها .
3- فشل اليسار في تفعيل دوره كحضور فعال في الأطر النقابية العمالية والمهنية ، نتيجة الفشل في تحليل دور الحزب وتفاعله واندماجه بالجماهير الشعبية والمثقفين.
4- عجز قوى اليسار العربي، عن تنظيم او اكتشاف قيادات جديدة طبيعية نابعة من بين الجماهير وتحويلها إلى كوادر حزبية .
5- غياب الرؤية الواضحة للقضايا السياسية الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى إلى بهتان الممارسة النضالية الديمقراطية في هذا الجانب، ودفع بحالة التمييع الفكري والسياسي والتنظيمي ، السائدة اليوم ، صوب المزيد من التفكك والتشرذم الداخلي، إلى جانب غياب الوعي الثوري وغياب الشغف او الحماس والدافعية الذاتية في البنية العامة للتنظيم ، ومن ثم ولادة وانتشار مظاهر الشللية والتكتلات الانتهازية ذات الطابع الشخصي.
6- عدم تربية كادر حقيقي، سواء على صعيد الوعي، أو على صعيد العمل والإدارة والتوسع والممارسة في أوساط الجماهير وتنظيمهم، والممارسة في إطار العمل السري أو العلني، أو الجمع بينهما وفق ظروف وحاجات الحزب.
7- تراجع قوى اليسار في الأوساط الجماهيرية الشعبية الفقيرة نتيجة العجز عن معايشة الجماهير، ومشاركتها معاناتها وهمومها ومن ثم الإجابة على أسئلتها.
وبالتالي فإن أية محاولة لاستنهاض أحزاب وفصائل اليسار العربي، ينبغي أن تبدأ بنقد تجربتها سواء على صعيد النظرية أو الوعي الأيديولوجي ، أو على صعيد ممارستها لدورها طوال المرحلة الماضية، خاصة وأننا نعيش اليوم ، أمام نتيجة مفزعة تتجلى في هذه الهوة المتزايدة الاتساع بين الجماهير من ناحية وأحزاب اليسار العربي من ناحية ثانية، وهنا تتبدى الحاجة إلى إثارة وتفعيل عملية النقد الذاتي البناء ، الذي يستند إلى الحاجة الموضوعية الضاغطة، لتجديد وإعادة بناء قوى اليسار العربي، عبر ممارستها لعملية التقييم والمراجعة المنهجية العلمية القاسية لكافة برامجها وسياساتها ورؤاها الأيديولوجية، وصولاً الى التطبيق الخلاق لهذه الأسس على ضوء المتطلبات والضرورات الراهنة والمستقبلية للواقع الخاص في كل بلد عربي على حدة، ارتباطاً بالبعد والاطار القومي العربي كوحدة مجتمعية واقتصادية وسياسية واحدة، انطلاقاً من الوعي والإحساس بأن المصلحة الطبقية باتت جزءاً من المصلحة القومية، و أن إنهاء نظم الرأسمالية التابعة هو جزء من مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، و أن تحسين أوضاع الطبقات الشعبية مرتبط بتحقيق التطوّر الاقتصادي، و التطوّر المجتمعي. و هما مرتبطين بتحقيق الاستقلال و التوحيد القومي.
على ضوء كل ذلك فإن من واجب جميع الماركسيين المعنيين بمصير الوطن العربي، أن يبادروا إلى التفاعل و الحوار من أجل إعادة بناء التصوّرات الماركسية، إلى البحث الجاد في الواقع العربي من أجل بلورة المشروع القومي الديمقراطي، مشروع الإستقلال و الوحدة القومية و التطوّر و الديمقراطية و الحداثة، الأمر الذي يفرض على قوى اليسار الماركسي البدء بعملية حوارية تستهدف وضع التصورات الفكرية والسياسية والتنظيمية من أجل إعادة بناء الحركة الماركسية العربية بما يسمح بأن تتحوّل إلى قوّة فِعل حقيقيّة.



7- كيف تُقَيِّم الماركسية في المشهد الراهن للنظام الرأسمالي العالمي ؟

بداية أشير إلى ان تبني أحزاب اليسار للماركسية منهجاً، يجب أن ينطلق من كونها نظرية علمية، وهنا لا بد من التأكيد على الكيفية التي نتعاطى بها مع الماركسية ومنهجها في الممارسة النضالية ، التحررية والديمقراطية ، إذ أن هذا المنهج ليس منهجاً دوجمائياً ، بل يتعارض مع فكرة الحقيقة الوحيدة المطلقة والنهائية ، كما أن استخدامه بصورة واقعية وثورية خلاقة ، يسهم – دون أدنى شك – في اغناء وتطوير النظرية لكي توجه الممارسة الحياتية التي بدورها تطور وتغني النظرية. فنظرية المعرفة الماركسية ، هي جزء من صيرورة حركة الحياة ومتغيراتها التي لا تعرف الجمود أو التوقف، ما يعني بوضوح شديد رفضنا التعاطي مع الماركسية في إطار منهج أو بنية فكرية مغلقة أو نهائية التكوين والمحتوى، بل يتوجب علينا أن نتعاطى معها من خلال منهجها الجدلي، كبنية فكرية قابلة للتطور دوماً مع تطور الانجازات والاكتشافات العلمية في جميع مجالات الحياة وحقائقها الجديدة، إذ أن الماركسية تكف عن أن تكون نظرية جدلية إذا ما تم حصرها في إطار منهجي منغلق أو في ظروف تاريخية محددة، لأننا بالمقابل ندرك أن الانغلاق أو الجمود هو نقيض لجدل الماركسية التطوري ، كما هو نقيض لمنهجها وثقافتها ومشروعها الإنساني، الهادف إلى بلوغ الحرية الحقيقية التي تتجسد في العدالة الاجتماعية والاشتراكية والتحرر الشامل للإنسان من كل مظاهر القهر والاستغلال والاضطهاد والتبعية.
إن أهمية هذه الرؤية ، مرتبطة بما يجري من أزمات سياسية واقتصادية عالمية وإفقار للشعوب بما يؤكد على عودة ماركس من جديد وعلى الاشتراكية كخيار وحيد للمستقبل.
ففي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها السياسية الضارة من ناحية، و تزايد استغلال موارد الشعوب الفقيرة عبر تزايد بشاعة الاستغلال الرأسمالي العالمي في الاستيلاء على فائض القيمة لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من ناحية ثانية ، فإن الحاجة إلى الاشتراكية على الصعيد العالمي ، تتزايد كضرورة موضوعية وتاريخية، في وضع تزداد فيه امكانيات استعادة اليسار الماركسي على الصعيد العالمي لدوره في ظل تفاقم مظاهر الصراع الطبقي ، الكامنة والظاهرة، في بلدان الأطراف وفي ظل بروز مؤشرات وتراكمات الأزمة البنيوية الشاملة للنظام الرأسمالي، في بلدان المراكز الرأسمالية.
إن هذه الصورة ، إلى جانب استعادة بعض قوى اليسار العالمي لدورها ووصولها إلى السلطة في العديد من بلدان العالم في أمريكا اللاتينية وآسيا، ستعزز حاجة شعوب الأطراف عموماً، وقواها وأحزاب اليسار فيها إلى الاشتراكية، أكثر بما لا يقاس من الحاجة إليها في عهد ماركس. ذلك أن الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح عليهما يكون عبر ما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني من ناحية، وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الفقير والمتخلف الذي كان يسمى "عالماً ثالثاً".
وفي هذا السياق أشير إلى تعثر تجربة دول اليسار الديمقراطي في أمريكا اللاتينية التي قد تفرض مزيداً من الوضوح والإدراك لدى قياداتها وأحزابها بأهمية الحسم المعرفي والاقتصادي والاجتماعي صوب تبني الماركسية ومنهجها بوضوح، انطلاقاً من أن ديمومة تجربتهم مشروطة بهذه الرؤية الفكرية وافقها الاشتراكي، الذي لا محيد عنه في ظروف الاستقطاب والصراعات مع قوى اليمين الرأسمالي ، المحلية والخارجية ، خاصة الإمبريالية الأمريكية ، وهنا لابد من إعادة تقييم ونقد تجربة اليسار الحاكم في أمريكا اللاتينية لإزاحة ووقف كافة النزعات الفردية البيروقراطية، التي تسعى إلى إعادة إنتاج عبادة الفرد ومن ثم تكريس هذا القائد أو ذاك حاكماً أو رئيساً مدى الحياة، واستبدال هذه الظاهرة بالعمل الجماعي الديمقراطي الممأسس في إطار العلاقة بين هيئات الحزب والدولة والطبقات الشعبية على السواء، انطلاقاً من تبني الرؤية الماركسية ومنهجها وفق منظور خاضع دوماً للاجتهاد والتطوير والتجدد في سياق العلاقات الديمقراطية مع النقابات العمالية والفلاحين والمهنيين والمرأة والشباب والتكنوقراط .... إلخ ، كضمانه لتقدم التجربة الاشتراكية وتطبيقاتها السليمة كشرط لحمايتها من الصعوبات والعثرات السياسية والمجتمعية من قوى اليمين الرأسمالي المحلي، المدعوم من النظام الرأسمالي العالمي، المتربص لاسقاط التجربة الاشتراكية أو افشالها .
في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، تتبدى الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، إلى جانب الاستفادة من المسار التطوري والتجديدي للفكر الماركسي ما بعد لينين إلى يومنا هذا عبر العديد من المفكرين والمثقفين الماركسيين الذين قدموا إضافات نوعية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية، اغنت الماركسية كنظرية في التغيير الثوري وكمنهج للتحليل .
إن قراءتنا لهذه الإضافات ومتابعتنا لها ، تعزز لدينا القناعة الراسخة أن الماركسية لم تندثر، بل من المستحيل تجاوزها ، وبالتالي نقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، انت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فلا زالت البشرية في عالمنا اليوم تعاني من: التفاوت الطبقي, الاستغلال الطبقي, القهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ الاستغلال والقهر الاجتماعي والإفقار المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان والحروب التي تمارس لحماية مصالح النظام الرأسمالي كما هو الحال في بلادنا. الأمر الذي يؤكد على أن الماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة القادرة على مساعدة البشرية في كفاحها للخلاص من الاستغلال الرأسمالي وكل أشكال الاضطهاد الوطني والقومي . ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية لاستمرار الحضارة البشرية، وضمان لا غنى عنه لبقاء الجنس البشري، إذ ليس ثمة خيار آخر –خاصة لبلداننا العربية والعالم الثالث- فإما الاشتراكية أو مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال الوحشي.
ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العالمي، ان تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية الذي يشكل وعيها، مدخلاً أساسياً لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والتكنولوجية من جهة ثانية، انطلاقاً من إدراكها الموضوعي، بان التعاطي مع الماركسية ومنهجها بعيداً عن كل أشكال الجمود وتقديس النصوص ، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة ، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية ، في ارتباطه المباشر وغير المباشر مع واقع ومتطلبات البلدان الأخرى في هذا الكوكب الذي يكاد اليوم أن يصبح وحدة اقتصادية سياسية واحدة .
لأننا بالقدر الذي نؤمن بأن الماركسية إذا ما كفت عن تجديد نفسها إنما تكف عن أن تكون نفسها ، ذلك إن تجديد الماركسية لن يتحقق على يد مفكرين ماركسيين يبدعون من داخل الأبراج العاجية، فتطوير الماركسية مستحيل بمعزل عن الممارسة والتجربة على أرض الواقع، لذلك فإن جميع الماركسيين في كافة الأحزاب والحركات اليسارية على الصعيد الأممي، مطالبين بدراسة واقع بلدانهم وتطبيق النظرية على هذا الواقع تطبيقـاً خلاقـاً .
وبتطبيق الماركسية على أرض الواقع، فإنها تعيد إنتاج نفسها بشكل أكمل وأرقى وتصبح قادرة على تلبية معطيات الواقع الجديد، فالعالم اليوم يعيش فترة مخاض معقدة لمرحلة جديدة في تاريخ البشرية، ومواجهة الرأسمالية المعولمة من القوى اليسارية في البلدان المتطورة ، والقوى اليسارية في بلدان الأطراف، تقتضي مبادرة هذه القوى للحوار من أجل تأسيس أممية جديدة اشتراكية وديمقراطية وإنسانية.
لقـد حققت الماركسية إنجازات ضخمة في الماضي ولازال وجودها وثقلها في الحاضر, وتنتظر الماركسية آفاقاً مبشرة في المستقبل، وإذا ما بدت الآفاق أمامنا مسدودة مظلمة, فليكن ذلك حافزاً لكل قوى اليسار لتكثيف النضال في مواجهة الإمبريالية والانتصار عليها ، عبر منهجية ورؤية تنأى بنفسها عن أخطاء وخطايا التجربة الاشتراكية المنهارة ، خاصة مظاهر عبادة الفرد والبيروقراطية المقيتة وانعدام الحوار الديمقراطي الداخلي بين التيارات الاشتراكية .


8- ما هي طبيعة " أزمة " الماركسية الراهنة ومستقبلها في البلاد العربية ؟

ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا ، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي من ناحية، وأزمة الحركات اليسارية العربية من ناحية ثانية، خاصة في ظل مرحلة العولمة الراهنة ومتغيراتها ، دون أن نتجاوز الحقيقة القائلة بأن أزمة الفكر السياسي العربي ، هو محصلة نهائية للواقع العربي بكل أبعاده التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة، بوجه عام. وهو استنتاج ينطبق بصورة أكثر وضوحاً على أزمة الماركسية في بلادنا .
إن جذور أزمة الماركسية في الوطن العربي تكمن في هذا التراجع الفكري أو النظري، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع بسبب فشلها في وعي الواقع واستيعاب جوانبه ومكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...إلخ ، حيث استمرت طوال العقود الماضية رفع شعارات او مبادئ لا تجسد الواقع أو تعكسه بصورة جدلية وموضوعية صحيحة، ما يعني بوضوح ان الحركات اليسارية لم تدرك أن المبادئ لا تصلح نقطة انطلاق للبحث والتحليل والتنقيب، بل هي نتيجتها الختامية. فالمبادئ لا تطبّق على المجتمع والطبيعة والتاريخ بل تُشْتَقْ منها، فليس على الواقع والتاريخ أن يتطابقا مع أفكارنا, بل على أفكارنا أن تتوافق وتتطابق مع قوانين حركة الواقع ومنطق التاريخ.
وبالتالي فإن أزمة الماركسية عندنا، تتجلى في كونها تعيش حالة قطيعة أو إرباك مع تراثها ارتباطاً بالأزمة الفكرية لدى أحزاب اليسار العربي، وهذه الأزمة أسهمت في ضياع بوصلة تلك الأحزاب، الفكرية والسياسية، ليس بسبب التبعية الميكانيكية تاريخياً للمركز في موسكو، أو بسبب الوعي المسطح أو البسيط على مستوى الاعضاء فحسب بل أيضاً بسبب هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية ، التي عاشت نوعاً من الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي الذي تميزت به تلك الهيئات ، إلى جانب تراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذا النظام أو ذاك.
كما تجلت الأزمة أيضاً ، في المنتسبين إلى هذه الأحزاب وهيئاتها القيادية، لا سيما ضعف وعيهم للدور الذي على الماركسية أن تقوم به في مجتمع متأخر تابع ومستباح، وأمة تعاني استلاباً قومياً مضاعفاً، أي تعاني من التجزئة ومن احتلال جزء من أراضيها، ومجتمع لا يعاني من الرأسمالية، بل من نقص التطور الرأسمالي والمفاهيم التنويرية المرتبطة به، وأمة يسيطر ماضيها على حاضرها وأمواتها على أحيائها، كما هو حال المجتمعات العربية في هذه المرحلة من القرن الحادي والعشرين، حيث نلاحظ أن الظروف الموضوعية العربية قد تكون ناضجة للثورة، لكن الثورة محتجزة وملجومة بسبب قصور العامل الذاتي الضروري لإطلاقها، الأمر الذي يتطلب من كل يساري ماركسي، مؤمن بضرورة مجابهة الواقع الراهن وتجاوزه ، أن يتحمل مسؤليته في الإسهام بدوره لإزاحة عوامل أزمة أحزاب وفصائل اليسار والخروج منها صوب استنهاضها لكي تستأنف دورها في مجرى النضال الوطني والديمقراطي في بلدانها .
وفي هذا الجانب ، أشير إلى أن ما يوصف بأنه " أزمة الفكر" هو في الحقيقة أزمة الممارسة بسفحيها: النظري والعملي، فثمة بون شاسع بين الممارسة النظرية، مثلاً، وبين انتقاء وجمع وتوليف مجموعة من الأفكار والمبادئ والتصورات، قطعت عن منظومتها الفكرية، وانتزعت من سياقها التاريخي ، عبر مسميات خجولة أزاحت النص الصريح بالالتزام بالماركسية ، لحساب نصوص تلفيقية أو توفيقية أو تحريضية، أو عناوين استرشادية جاءت انسجاماً مع مواقف العديد من الأحزاب الشيوعية التي تخلت عن اسمها أو بعض الفصائل والحركات الأخرى التي اتجهت صوب الخلط الفكري بين الليبرالية والماركسية ، أو حتى شطب الماركسية من أدبياتها، ذلك الخلط أو الشطب، سيعزز تراجعها المتصل، وسيعجل بنهايتها واسدال الستار عليها تمهيداً للجديد الذي قد يولد من احشائها.
إضافة إلى كل ما تقدم، نستطيع الكشف عن مظهرين آخرين من مظاهر أزمة الماركسية في البلدان العربية ، أولهما: عدم استخدامها كفلسفة نقدية في تشخيص ودراسة خصوصية التطور الاجتماعي الاقتصادي العربي وانماطه وثقافته المختلفة كلياً عن الانماط التي سادت في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، والثاني: عدم تمحورها على المستقبل، بسبب عدم توجيهها صوب فكرة الثورة الديمقراطية والتقدم بوصفها عملية تَخَطِّ وتجاوز مستمرة، ليس لأنظمة التخلف والمشيخات القبلية الشبه إقطاعية فحسب ، بل أيضاً لما كان يسمى بأنظمة "البرجوازية الوطنية " .
صحيح أن الماركسية هي منهج أفكار ماركس , ومنهج مذهبه أيضاً، لكن علينا أن ندرك أن كل من الأفكار، و"المذهب"، محدودان ومحددان بالزمان والمكان، ولذلك فإن أهم مظهر من مظاهر أزمة الماركسية في بلادنا ، هو جمودها على النص القديم او "المذهب" وافتقارها أو عجزها عن التعامل مع روح المنهج المادي الجدلي وجوهره التاريخي وبالتالي عجزها عن اكتشاف جدل الواقع العربي ذاته وميول تطوره، الأمر الذي يستوجب من قوى اليسار الماركسي خروجها من هذا المأزق الجامد صوب مزيد من الوعي بالماركسية وأزمتها وكيفية الاسهام في تطويرها وتجددها في ضوء تطورات الواقع المعاش ومتغيراته .
إن شطب عبارة " النظرية الماركسية" من أدبيات ووثائق أحزاب اليسار ، والاكتفاء فقط بالمنهج العلمي أو المنهج الجدلي معناه أن البنية الثورية (السياسية والتنظيمية) تراجعت، إذ لا يمكن موضوعياً الحديث عن المنهج المادي الجدلي بدون الماركسية، وبالتالي فإن الهروب من الماركسية باسم المنهج الجدلي خطوة تؤشر على نزعة انتهازية تسعى إلى الهروب من التراث الماركسي كله ، وهي أيضاً خطوة تؤكد على انتصار التيار الليبرالي الانتهازي الرث داخل هذه الأحزاب من جهة، أو تجسيد لعدم الوعي بأهمية اعتماد الماركسية كشرط للتعاطي مع المنهج المادي الجدلي من جهة ثانية، إذ أن معنى ذلك الشطب للماركسية ليس استجابة للتيارات الدينية الرجعية وغيرهم من أعداء الماركسية فحسب، بل هي أيضاً إزاحة مفاهيم الصراع الطبقي وفائض القيمة والتحليل الاقتصادي والطبقي، رغم أن المنهج عنصر مركزي في الماركسية، لكن مفهوم الثورة لا يتحدد معناه ومغزاه الحقيقيان ولا يكتسب عقلانيته إلا في الماركسية وعبرها بفضل منهجها الجدلي في إطار النضال الوطني والقومي ببعديه التحرري والطبقي الديمقراطي.
لذلك كله ، فإن مستقبل الماركسية في بلادنا ، سيظل مرهوناً بقدرة واستعداد قوى اليسار الماركسي العربي في توضيح هذه القضايا والاتفاق عليها، فإن بقيت هذه القوى على حالها الراهن من الضعف والتراهل والعجز وغياب الوعي ، فلا مناص من استمرار تراجعها وتهميشها صوب مزيد من تفككها وصولاً إلى اسدال الستار عليها في انتظار الجديد .
وبالتالي فإن ضرورات المستقبل تفرض أن ينفتح الحوار و البحث، بين من بقي واعياً ومخلصاً للماركسية ارتباطاً بايمانه واقتناعه بضرورة الثورة على هذا الواقع المهزوم وتجاوزه ، من أجل أن تتقاطع الرؤى، و يتبلور ما يمكن أن يشكِّل أساساً لحركة تغييرٍ ماركسية جديدة تستطيع أن تراكم وتوفر عناصر ومقومات المواجهة –الراهنة والبعيدة المدى- المطلوبة ضد كل من التحالف الإمبريالي الصهيوني ، و كذلك مواجهة نهب الأنظمة الرأسمالية التابعة و إستبداديّتها. معبّرين عن روح الطبقات الشعبية و عن حلمها في التطوّر وتجاوز التخلّف و التجزئة و التبعيّة و الإستبداد، و اقامة المجتمع الاشتراكي العربي الموحد.
لهذا يجب أن يعود لليسار دوره الحقيقي، و أن تعود الماركسيّة منهجيّة تحفر في الواقع، و تؤسّس لتجاوزه نحو المستقبل، أي نحو استكمال مهمات التحرر الوطني والقومي الديمقراطي وبناء الصناعة و تحقيق التنمية الإقتصادية، و الإرتقاء في وضع الطبقات الشعبية، و في تأسيس الدولة العربية الديمقراطية القائمة على أساس فيدرالي، و التي تقرُّ بحقوق الأقليات القومية و بالخصوصيات المناطقيّة، و تكون قوّة عالمية في مواجهة النمط الرأسمالي، من أجل تجاوزه نحو الإشتراكيّة.
إننا ندعو إلى البدء في تفعيل عملية الحوار والبحث ، بهدف ايجاد آلية حوار فكري من على ارضية الحداثة والماركسية ، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والانسانية ، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي لقوى اليسار الماركسي العربي بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- الهادفة الى توفير العوامل المؤدية الى ولادة واعلان الحركة الماركسية العربية الموحدة ، في الزمان والمكان المناسبين ، سواء في المرحلة الراهنة ، او في المستقبل ، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية الصهيونية الامبريالية على امتنا من جهة ، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها .
وعلى الرغم من كل هذه الأحوال المتردية في صفوف الأحزاب والفصائل اليسارية العربية ، إلا أن الماركسية تظل – اليوم وغداً – سفينة الخلاص لحزبنا ولشعوبنا العربية... فالعولمة واللحظة التاريخية التي يعيشها الواقع الفلسطيني تشترط ضماً الوحدة الجدلية بين الماركسية والقومية في إطار الصراع ضد العدو الإمبريالي الصهيوني.