تجمَّلْ بالأخلاق


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7434 - 2022 / 11 / 16 - 11:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“تَجمَّلْ بالأخلاق". مبادرةٌ راقية تاقت نفسي لأن تحدثَ في مصر منذ دهور لاستعادة وتكريس قيم الأخلاق والرقيّ والتحضّر التي تساقطت من شعبنا الطيب مع الوقت لأسباب كثيرة يعرفُها الجميع. وأخيرًا أطلقتِ "المتحدة للخدمات الإعلامية" تلك المبادرة الجميلة في إطار "الجمهورية الجديدة ٢٠٣٠" لتصحيح بعد السلوكات الخاطئة التي اخترقت مجتمعنا في غفلة منّا، لكي نعود إلى "الكود الأخلاقي الرفيع" الذي تمتّع به آباؤنا وأجدادُنا في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات الماضية. خلال ومضات خاطفة لا تتعدى الدقيقة الواحدة تُبثُّ مقاطعُ فيديو على الفضائيات تتحدث كلٌّ منها عن مواقفَ شائنةٍ قد نمارسُها ببساطة دون وعي بأننا "نغتال" الآخرين معنويًّا وأدبيًّا. التحرش، التنمُّر، الفساد، وغيرها من التداعيات السلبية التي تشوّه مجتمعنا المصري الطيب، تتجلى بكامل ثوبها المعتم الأشوه في تلك المقاطع، حتى ننتبه إلى خطورتها، فنطردُها من أعماقنا. شكرًا للمبادرة الجميلة التي تحارب "التنمّر" الذي هو "قتلٌ" مع سبق الإصرار والترصّد. للأسف جميعُنا قَتلَ مراتٍ عديدة، عمدًا ومع سبق الإصرار والترصّد.
قبل أعوام حضرتُ مؤتمرًا عن الصحة النفسية. بعد المؤتمر حضرنا عشاءً على نغماتِ البولندي العظيم "فريدريك شوبان"، بتوقيع أنامل المصري العظيم "رمزي يسّى" على البيانو، ورُحنا نتكلم عن حالات نعرفها من الناس، تعرضوا للضغط النفسي.
حكيتُ عن أشهر مريضة نفسية في العالم، "فرجينيا وولف"، التي صنعت مجدَها الأدبي رغمًا عن، أو ربما بسبب، إصابتها باضطراب المزاج ثنائي القطب Bi-Polar Mood Disorder،الذي دفعها للانتحار غرقًا؛ حين أثقلت جيوبَ معطفها بالأحجار، ونزلت نهر "أوز" بانجلترا، لتنتهي حياتُها الثرية عام ١٩٤١. هي البريطانية اللامعة التي غيرت مسارَ الرواية في أوائل القرن الماضي، وأفخر بأنني ترجمتُ للعربية بعضًا من أعمالها الخالدة صدرت قبل أعوام عن "المركز القومي للترجمة" وقريبًا عن دار “هنداوي” للنشر والتوزيع.
ثم جاء دور الكوميديان الجميل "هاني رمزي" ليحكي لنا عن الفنانة “حنان الطويل" التي شاركته فيلم: "عاوز حقّي" وصاحبة الجملة الضاحكة الشهيرة: “البيت ده طاهر وهيفضل طول عمره طاهر.” في أحد أيام عام ٢٠٠٣، دخل "هاني رمزي" لوكيشن التصوير فوجدها تبكي والناس من حولها يضحكون. ثم عرف أنهم يسخرون منها حين انتشر خبرُ أنها كانت رجلا وتحوّلت بالجراحة إلى امرأة. بعد تلك الواقعة، دخلت "حنان الطويل" المصحة النفسية، وماتت. انتحارًا كان أو غير انتحار، المهم أنها لم تعد موجودة بسبب تنمّر بعض المراهقين "القتلة".
لكن هناك فارقًا هائلا بين موت"فرجينيا وولف" وموت "حنان الطويل”. الأولى لم يقتلها أحدٌ. بل دعمها كلُّ من حولها من زوج وأصدقاء وجيران وأهل، للحد الذي قررت معه الرحيل حتى ترفع حملها عن الجميع، كما ورد في رسالتيها اللتين تركتهما لزوجها. كان حولها متحضرون يحبّونها ويدعمونها. أما "حنان الطويل"، فتعرضت للاغتيال الجماعي السافر السافل من المحيطين والجيران والجهلاء من زملاء المهنة. هذا قتلٌ عمدٌ لا رحمة فيه.
كلُّ كلمة سخرية سخرنا بها من شخص مأزوم، قتلٌ عمد. كلُّ شائعة روّجناها حول إنسان، قتلٌ عمد. كلُّ مساعدة لم نؤدّها إلى شخص يحتاجها، قتلٌ عمد. جرائمُ القتل العمديّ، لا حصرَ لها، وجميعُنا ارتكب شيئًا من تلك الجرائم، ونحن نبتسم!
هل تذكرون حلقات القتل الجماعية الرخيصة التي دارت حول الفنانة "صباح" لأنها تخطّت الثمانين من عمرها؟ نكاتٌ بذيئة كانت تنطلق كل نهار من أفواه مراهقة، حول الجميلة التي أمتعتنا بصوتها الاستثنائي، ومازالت. لصالح مَن؟ لصالح القبح والتفاهة والرخص والقتل العمديّ. وفي المقابل، انظروا إلى الأوروبية "دورو ديكاستر" التي احتفلت قبل أعوام بعيد ميلادها ال ١٠٢، بالقفز بالمظلة فوق سطح البحر. وقف الناس يصفقون لها بحب وإعجاب. تُرى هل بوسع مشهد رائع كهذا أن يحدث في مجتمعاتنا دون تنمّر وسخرية؟! نحن للأسف، نُحصي على المسنين سنواتهم، وكأننا ندفعها من أعمارنا!
التحضّرُ هو القدرة على معاملة الآخرين برِقّة وتهذّب. التحضُّرُ هو الحب. وبهذا المعيار قِسْ درجة تحضرك، وتحضُّر من حولك.
عزيزي القارئ. اجلسِ الآن في ركنك المفضل بالبيت. خفِّف الإضاءةَ، وأغمض عينيك، وراجع شريط حياتك، ثم احصِ عدد قتلاك. وقبل أن تنهض لتعيد دفن ضحاياك في قبر ذاكرتك، توضأ وصلِّ لله واستغفرْ؛ عَل الَله يغفر وهو الغفور الرحيم. ولكننا لن نغتسل من دم ضحايانا إلا بالتعهد بأن نزِن كلماتنا التي تخرج من أفواهنا بميزان الذهب "قبل" أن ننطق بها. لأن الرصاصة التي تنطلق من فوهة الغدارة، لا تعود أبدًا. وأبدًا. عزيزي القاتل، أُعزّيك في قتلاك، وأعزّي نفسي في قتلاي. وطوبَى للرحماءِ لأنهم يُرحمون.
               ***