وجهُ أمي!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7740 - 2023 / 9 / 20 - 10:30
المحور: الادب والفن     

وجهُ أمي!

جاءت أميّ للحياة يوم ١١ سبتمبر، ورحلت عنها يوم ٥ سبتمبر، وبين هذين اليومين عاشت حياة طويلة ملؤها الكفاح والجِدّ والكّدّ والطموح والتعب؛ لكي تجعل من طفليها شيئًا حقيقيًّا يستحقُ الكفاح والتعب. كانت تردد دائمًا أنها تبني لمصر هرمين جديدين: طبيبًا، هو شقيقي، ومهندسة هي أنا، وأنها فخورة أنها أمٌّ لأوائلَ سهرت على تفوقهما الليالي وضحّت من أجلهما بكل شيء حتى تَحقَّقَ حلمُها فيهما. كانت أمي سيدة قوية فوق العادة. على رغم جمالها الأخاذ، إلا أنها بـ "١٠٠ راجل"، كما يقولون. وكانت حاسمة للغاية فيما يخصُّ التفوق الدراسي. لا شيء في معجمها يعني ٩٩٪، إذْ ستظلُّ تتساءل طوال الوقت عن الدرجة المفقودة! ربما يصدُق علمُ الفلك حين قال إن مواليد برج العذراء يتعذبون ويُعذّبون مَن حولها بهذه السمة الصعبة: الـ Perfectionism أو نشدان الإتقان. وقد ورثتُ عنها برج العذراء بسماته؛ وأعرفُ كيف يتعذَّبُ صاحبه ويُعذِّب مَن معه. لهذا كان من العسير إرضاءُ أمي إلا بالدرجات النهائية ودخول الطب والهندسة. في ذكرى رحيلها وفي عيد ميلادها اللذين يفصلهما أيامٌ قليلة، أودُّ أن أشكرها لأنها علّمتني، أو أورثتني، المعنى الحقيقي للمسؤولية والتفاني في الكد نُشدانًا للإتقان.
دعوني أحدّثكم عن "وجه أمي" وكيف ذبحني اختفاؤه. يوم رحيل أمي وقفتُ أمام جثمانها لحظة الغُسل ورحتُ أتأمل عينيها البنيتين الجميلتين نصف المغمضتين، ولمحتُ فيهما وميضًا كأنما تنظر نحوي لتعتذرَ لي عن تركها إياي وأنا في أمسّ الحاجة إليها لكي تُكمل معي مشواري العسير مع ابني “عمر”. كنت أنظرُ إليها مُمددة فوق طاولة الغُسل والسيداتُ من حولها يصببن على جسدها "ماء زمزم" الذي جلبتُه لها بنفسي من مكّة المكرمة بناءً على طلبها. كنتُ مندهشة من استسلامها لأيادي السيدات، ورحتُ أهمس لها: “ لماذا تستسلمين لهنّ هكذا يا أمي، وأنتِ المرأةُ الصعبة التي لا تُساس؟!” صرختُ في وجوههن "أن اتركن أمي!” لكنهن هددنني: إن بكيتُ أخرجنني من الغرفة. لكن خوفي من صمتك واستسلامك جعل المياه تتكاثف في عينيّ وتسقط كشلال لا يتوقف.
لحظة الكفن كانت أقسى من الغُسل. لم أحتمل مرأى طبقات الكتّان يبسطنها فوق جسدك، فصرخت فيهن: "لا!!" مستحيل أن يغطين وجهَك عني للأبد! نزعتُ الكفن عن وجهك. فأخرجنني من الغرفة لأكمل وجعي بعيدًا عنك. وحيدةً مثل زهرة جافة، مرميّة في جدب.
لا أحد يعرف لماذا رفضتُ الكَفن. لكنك تعرفين يا أمي دون شك؛ لأنك تذكرين عُقدتي القديمة. حجبُ وجهك عني استدعى خوفًا قديمًا لم يبرحني منذ طفولتي. تذكرين؟ أول يوم لي في المدرسة. تركتِني في الفصل بعدما أجلستني على الديسك وخرجتِ. لمحتُ وجهك من شباك الفصل وأنت تلوحين لي: "وداعًا”! ولم أستوعب لماذا تتركينني مع غرباء وترحلين!! حين اختفى وجهُك من صفحة الشباك صرختُ وركضتُ وراءك. ولم تعرفي ماذا تعملين مع عنادي وهلعي. استأذنتِ عميدةَ المدرسة "ميس لولو" أن تسمح لكِ بالبقاء معي حتى نهاية اليوم الدراسي. ورفضوا بالطبع. وبعد توسلاتك وافقوا على أن تجلسي جوار شباك الفصل من الخارج. أنهضُ من مقعدي في الفصل بين الحين والحين وأنظر إليك فأطمئنُ أنكِ هناك. أولئك القُساةُ يغطون وجهك الآن بالكفن كي يعيدوني إلى تلك اللحظة المُرّة. لحظة اختفاء وجهك من فتحة شباك الفصل. لن أسمح لهم بذلك. لكنهم فعلوا.
في فصل الخريف، تُظهر الأشجارُ كرمَها فتخلعُ ثوبَها القديم، وتُهديه للأرض. فتكتسي الأرضُ السوداءُ بثوب بديع من الذهب، غزلته من الأوراق الصفراء التي أسقطتها أشجار قررت أن تجدد دولاب ملابسها. أحب سبتمبر الخريفيّ الذي يحمل صوت أجراس المدارس وشقشقة العصافير في الصباح، وهدايا عيد ميلادي. لكنه كما يحمل لي الفرح، حمّلني سلّة ضخمة من الوجع، أحيانًا لا أقوى على حملها، فتسقط من فوق رأسي، وأنحني لأرفعها من جديد، مثل سيزيف يحمل صخرته إلى الأبد. جاءت أمي للحياة في سبتمبر، وأنجبتني في سبتمبر، ورحلت عني في سبتمبر.
في مسجد "النور" بالعباسية، وقتَ الصلاة عليكِ، قالت لي إحدى المُعزّيات: "ماما جاءت وواقفة برا مش قادرة تدخل وعاوزة تشوفك”. صرختُ في فرح: "بجد، صحيح؟!" وركضتُ إلى خارج المسجد أبحثُ عنكِ، لكنك لم تكوني هناك. كانت تتكلم عن أمها هي، وليس عن أمي أنا. أمي أنا، ماتت.
مازلتُ أدقُّ رقم هاتفك، وحين تقول السيدةُ: هذا الرقمُ غير موجود بالخدمة!” أعرفُ أنك رحلت إلى حيثُ ترحلُ الأمهات ولا يعدن. أديرُ سورة " غافر" بصوت الشيخ "محمد صديق المنشاوي"، وأنظر إلى وجهك تبتسمين حين يقول: “ثم يُخرجكم طفلا"، وأنت تمسحين على بطني وأنا حاملٌ في طفلي. ماما… وحشتيني وأحتاجُ إليك! تعالي!
***