على هامش -الدهشة-!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 10:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
في تزامن "مدهش"، أُذيعت حلقتي من برنامج "سِجال"، على قناة العربية، في نفس توقيت نشر مقالي "أندهشُ حين لا أندهشُ"، بنافذتي هنا بجريدة "المصري اليوم". وجهُ الدهشة جاء من سؤال الإعلامي "مشاري الزايدي" عن الدكتورة "نوال السعداوي" وموقعها كأديبة وطبيبة ومفكرة وحقوقية، وإجابتي: أنها أشهرت "حقَّ السؤال" في وجوه مَن يرفضون التساؤل، لاسيّما إذا صدرَ من "امرأة”. وكان صدى المقال والحلقة واسعًا على نحو غريب، وكأن “الدهشة” تبحثُ عن لحظتها.
والحقُّ أنني أؤمن أن لا كرامة دون حرية، ولا حرية دون معرفة، ولا معرفة دون عقل، ولا عقل دون سؤال. فالعقلُ البشري مجبولٌ على "السؤال"، الذي لولاه مع عَمّرنا الكونَ بالحضارات، ولا اخترعنا ولا أبدعنا. نحن الجنسَ البشري، أهدانا اللهُ "العقلَ"، وهو "جوهرة الترقّي، وأداة السؤال".
من بين أجمل ما وردني من تعليقاتٍ على المقال والحلقة، كانت كلمة الدكتور "عبد الفتاح يوسف"، أستاذ الأدب العربي القديم، بكلية الآداب "جامعة البحرين". كتب يقول:
[أشكرك على مقالك الرائع عن الدهشة، فقد أثار دهشتي كعادتي عن قراءة كل مقال يتناول حدثًا بسيطًا فيحوّله إلى حدثٍ عظيم؛ لأني اعتدتُ الاندهاش من أجل المعرفة لذاتها. وهذا ما أكّدته "جان هرش" Jeanne Hersch في كتابها Introduction à la Philosophie الذي تُرجم للعربية: “الدهشة الفلسفيّة"، فقالت إن الدّهشة هي شرط الوجود الإنساني. لذا أندهشُ كل يوم، كي أشعرَ بوجودي كإنسان. أندهشُ من الذين لا يجدون حولهم شيئًا غامضًا! أندهشُ وأتحسّر على الذين لم يعرفوا مَلكَة التأمّل ويكررون عبارة: “لا شيء يستحق التفكير!” وأتذكر مقولة شوبنهاور الشهيرة: “كلّما قلّ حظّ المرء من الذّكاء، بدا له الوجودُ أقلّ غموضًا". والعجيبُ أن الأطفال يندهشون أكثر مما يندهش الكبار! هل لأن ما زالوا يحتفظون بإنسانيتهم؟ وما أثار دهشتي أثناء قراءة مقالك أنني منشغلٌ في كتابي الجديد بالأفكار المدهشة في نصوص الشعر العربي القديم، وأثناء تأصيلي لفكرة الدّهشة اكتشفتُ أن الإنسان عرف الفلسفةَ عن طريق الدهشة، وأن المرأة كانت قاسمًا مشتركًا لإثارة الدّهشة. فتقول الحكاية إن الفيلسوف "طاليس" كان يسير ناظرًا إلى السّماء يتأمّل النجوم والقمر، فسقط في حفرة. فأرسلت امرأةٌ ضحكة عالية وقالت: أنّى لك يا طاليس معرفة ما يحدث في السّماء وأنت لا ترى تحت قدميك؟!” فاعتبر المؤرّخون أن ضحكةَ تلك المرأة "بذرة الفلسفة الأولى”. الاندهاش تفاعل روحاني وعقلي مع الأشياء. تفاعل مع المألوف والغريب، مع المعقول واللامعقول، تفاعل يُغيّر من حال الإنسان فيجعله أكثر سعادة لأنه يستمتع بالاكتشاف، فحياة الإنسان تصبح بلا معنى عندما يكفّ عن الدهشة، سُعداء حقًا من يعرفون الدّهشة.]
***
انتهت كلمةُ أستاذ الأدب القديم، لكنها فتحت نوافذَ جديدة للدهشة والسؤال، تؤكده مقولات خالدة لفلاسفة قَدامى مثل"أرسطو": "الفلسفة تبدأ بالدهشة"، "أفلاطون”: “الدهشة هي شعورُ الفيلسوف الحقيقي، وليس للفلسفة بدايةٌ غير هذا"، "ديكارت": "الدهشةُ أولى الانفعالات، ومنها تتولّد جميع الانفعالات الأخرى"، "نيتشه": “أعمقُ الأفكار تُولد من لحظة دهشةٍ يختلُّ فيها كلُّ ما نعرف"، "الفارابي": “يتحرك الفكرُ من الدهشة"، "ابن سينا": “أولَ ما يُحرّك النفسَ إلى طلب العلم هو الحَيرة"، "ابن رشد": “يبدأ النظرُ بالتحيّر؛ فهو أولُ الفكر"، "الغزالي": “حين حصلت الحيرةُ، انحلّ عني عهدُ التقليد"، "الجاحظ": “العجبُ يحُثّ على التبيّن، ويبعث على النظر"، "ابن عربي": “العجبُ بابٌ من أبواب الكشف"، "ابن خلدون": “النفسُ إذا عَرَض لها الغريبُ، انتبهتْ"، "هايدجر": “الدهشةُ هي انكشافُ الوجود في لحظته الأولى”، "ألفريد وايتهيد": “الفلسفة تبدأ بالدهشة، وتنتهي بالدهشة أيضًا"، ليعيد مقولةَ "أرسطو" في صياغة دائرية. وأما السويسرية "جان هرش"، فقالت في كتابها آنفِ الذكر، فأكدّت الفكرةَ بقولها: “الدهشة ليست مجرد سؤال، بل هي توقُ الإنسانِ الدائمُ إلى أن يفهم مكانه في العالم. فالدهشةُ ليست فضولًا عابرًا، لكنها صدمة وجودية، لحظة نقف فيها أمام العالم ونقول لأنفسنا: “ما هذا؟ ولماذا هو هكذا؟ ولماذا أنا هنا؟” الفلسفة ليست تراكمَ معلومات بل موقفٌ وجودي، وطريقةٌ في النظر، فالإنسان كائن لا يتوقف عن السؤال؛ ولو توقف، ينطفئ داخله ما يجعلنا بشرًا. مَن يندهش يملك خيط التفكير الحر، ومن يفقد الدهشة يصبح مجرد تكرار لغيره.”
وأما ضحكة المرأة على "طاليس"، أول فلاسفة اليونان، حين وقع في البئر، فقد غدت رمزًا شغل ضمير الفلاسفة. فالفيلسوف يرى ما لا يراه الآخرون، وأما "ضحكة المرأة الساخرة" فتمثّل المجتمع الذي يُدين مَن يفكِّر ويُكفّره. الفيلسوفُ يتعثّر في العالم ويقع في الحُفَر؛ لأنه يرى ما وراء العالم. والناسُ يضحكون عليه لأنهم ينظرون إلى الحفرة ومواطئ القدم. الضحكة الساخرة تؤكد أن هناك بشرًا مشغولين بالخبز والحفر، وآخرين مشغولين بالنجوم ومواقعها.

***