هندسة عين شمس … العظيمة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 12:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
كأنه بالأمس فقط. كأنني ما غادرتُ مدرجاتِ هذه الكلية الجميلة إلا قبل برهة. الأشجارُ كما هي، لكنها ازدادتْ كثافةً وإيراقًا وإظلالاً، الأبنيةُ زادها الزمنُ مهابةً وعراقةً. الوجوه تغيّرتِ، لكن "الاسمَ" ظلَّ عظيمًا شاهقًا مثلما كان، وسيظل بإذن الله: “هندسة عين شمس” التي أخرجت عِظامًا من رموز مصر والعالم، منهم علماءُ ووزراءُ ورجالُ أعمال منهم، مع حفظ الألقاب؛ المهندسون: هاني عازر، أيمن عاشور، أحمد زكي بدر، صلاح دياب، فاروق الجوهري، طارق النبراوي، محمد إبراهيم سليمان، صلاح حجاب، علي زين العابدين، محمد بهاء الدين، ماجد جورج، شريف إسماعيل، محمود أبو النصر، حاتم عبد اللطيف، إبراهيم الدميري، حسن يونس، محمد الشيمي، هشام عرفات، محمد فتحي البرادعي، وغيرهم الكثير.
علاقتي بها تجاوزت السنواتِ الخمسَ التي قضيتُها في رحابها أنهلُ من علومها على أيادي أساتذتها الأجلاء. بل بدأت منذ الطفولة؛ حين كان جدي المعماري "صبري أبو حسين" يحكي لي ذكرياته بها، شارحًا المساقطَ الأفقية لمشاريعه التي أنجزها في مصر و"جِدّة" السعودية، وأن مشروع تخرجه كان "رفع القُبّة" التي تعلو الواجهة الأمامية العريقة، أي رسم مساقطها على الورق وتبيان محاور التماثل والتعامد. ثم أهداني طقم التحبير الخاص به Stango تحفيزًا لي. وكنتُ في طريقي كل يوم لمدرستي الابتدائية CGC أُطلُّ من نافذة الباص وأشيرُ إليها بزهو قائلة لزملائي: “دي الكلية اللي هادخلها لما أكبر!" وكثيرًا ما ادخرتُ من مصروفي الصغير لأشتري من مكتبة "هاشم" أو "سمير وعلي" مساطرَ وشابلوناتٍ ومناقلَ وبراجلَ، لا أدري كيف أستعملُها! وكأنني أودُّ استكمال مجموعتي الدراسية لحين دخول الكلية بعد سنوات طوال. لم أستخدم طقم تحبير جَدي، ولا شابلوناتي ومساطري؛ لأنني حين وصلتُ للكلية كانت قد استُجِدت أدواتٌ وعفى الزمنُ عن أدواتٍ، حتى صار اليوم الكمبيوتر وبرامجه هو الأداةُ ولا شيء آخر.
بدعوة كريمة من الدكتور "عمرو شعث" عميد كلية الهندسة جامعة عين شمس، حضرتُ قبل أيام حفل تخريج دفعة ٢٠٢٥. وفي نهاية يونيو الماضي كنتُ قد حضرتُ المؤتمر العلمي السنوي لهندسة عين شمس بحضور الدكتور "أيمن عاشور" وزير البحث العلمي لتكريم الأساتذة الرواد من الدفعات القديمة تقديرًا لجهودهم وعطائهم الأكاديمي والمهني. كان الحفلُ في "مدرج فلسطين العريق" الذي التقيتُ فيه لأول مرة بالشاعر الكبير "عبد الرحمن الأبنودي" حين دعوناه، نحن الطلاب، لنستمع منه إلى قصيدة "حراجي القط"، ويومها أنصتَ إلى قصائد الموهوبين من الطلاب، وكنتُ من بينهم، وقرأتُ أمامه وأنا أتعثّر في خجلي قصيدة "طوباوية"، وصافحني بحرارة متنبئًا لي بمستقبل واعد في الشعر، فبكيتُ فرحًا.
أما حفل التخرج فكان في ملعب الكلية. وكانت شمس الغروب ترسم خيوطها الذهبية على الأبنية القديمة فازدادت سحرًا فوق سحر. الخريجون يعتمرون قبعات التخرج السوداء، وعلى وجوههم ابتساماتٌ تجمع بين فرحة التخرج وقلق غدٍ يرسم المستقبل. والأساتذة يرتدون أرواب الأكاديميا السوداء بالأوشحة القرمزية والزرقاء تبعًا للرتبة الأكاديمية. وأما أسر الخريجين فلم ينجحوا في إخفاء ملامح الفرح والفخر بأبنائهم الذين كللوا سهر لياليهم بتيجان النجاح والتفوق. وعلى الشاشة العملاقة، تواترت صورُ الخريجين وهم أطفال إلى جوار صورهم في الجامعة، وكأننا نتلصص على زمان يمرُّ بعصاه السحرية على الطفولة النابهة ليجعلهم مع الأيام مهندسين سُرَّ من رآهم. وعلى المنصّة تعاقبتِ الكلماتُ المشرقة مثل مشاعل تنوير من عميد الكلية ورئيس الجامعة ونقيب المهندسين والوزراء الذين جاءوا يردون الفضلَ للكلية التي درسوا على مقاعدها. وجهوا كلماتهم للخريجين الجدد بأن مهنة الهندسة ليست صناعة الأبنية، بل صناعة الجمال وبنيان الغد بالضمير وشرف المهنة والنزاهة والعبقرية. فالهندسة ليست خرائطَ ولوحاتٍ، بل "عقدٌ أخلاقي" مع الناس والوطن والطبيعة. وألقى المهندس "طارق النبراوي"، نقيب المهندسين، قَسَم التخرج، ورددنا وراءه نحن قدامى الخريجين، مثلما ردده الخريجون الجدد. وطارتِ القبعاتُ الأكاديمية السوداءُ في السماء، كطيورٍ محرَّرَة، تتلألأ عُذَبُها في ضوء الغروب، قبل أن تهبط بخفّة على الأكتاف. لحظةٌ خاطفة، تختصر سنواتٍ من السهر والكفاح.
حفلات التخرج تُعيدُ إلينا لحظات نوستالجيا غالية محفورة على جُدُر ذاكرتنا وقلوبنا. نتذكر دموعَ الفرح في مآقي أمهاتنا وهنَّ يبروزن الشهادات، ونتذكر كاب التخرج المربع ولحظة نقل عُذبته Tassel من اليمين إلى اليسار، ثم الإطاحة به في الهواء، لكي يتلقاه طلابٌ جدد.
خرجتُ بالأمس من حفل التخرّج ٢٠٢٥، كأنه يوم تخرجي من هندسة عين شمس قبل عقود، ممتلئةً بفخر الانتماء إلى صرحٍ عريق علّمني أن العمارة ليست حجارةً وخرساناتٍ بل ذاكرةٌ وهُوية وشرف. وتظلُّ هندسة عين شمس منارةً تصوغ النورَ جدرانًا ومصانعَ وماكيناتٍ، وتبني لمصر غدًا يليقُ بمجدها.
***