-القمة-: -غزّة- امتحانُ الضمير العالمي
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 14:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
كنت أرجو أن يخرج البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الطارئة باتفاق جمعي بين الدول المشاركة على تجميد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع إسرائيل؛ لمحاصرة هذا الكيان الثعباني الذي ظل لعقود يتسلّل إلى المنطقة ويترعرع عبر قنوات التجارة والاقتصاد، حتى توهّم أنه جارٌ طبيعي للعرب. لكن سقطته الأخيرة بانتهاك السيادة القطرية خسّرته دولةً طالما فتحت أبوابها للمفاوضات واحتضنت جولات الحوار وبرعت في فنون الوساطة لحل المنازعات ورساء السلام، فكان هجوم إسرائيل على الدوحة "سقطة الشرير" التي سيظل يدفع ثمنها لسنوات.
لقد جاءت القمة لتؤكد أن حصار إسرائيل ليس مستحيلًا، على الأقل إقليميًّا وإسلاميًّا، وأن الكيان الذي سعى طويلًا إلى الاعتراف به كدولة طبيعية في المنطقة، ليس إلا ورمًا خبيثًا يمكن محاصرته. سقطات إسرائيل الخسيسة في فلسطين وقطر، كفيلة بتوحّد العرب على كلمة تكشف المحورَ الأمريكي-الإسرائيلي العاري من الأخلاق في مواجهة "الضمير العالمي"؛ الذي تجلّى في "إعلان نيويورك" بتصويت ١٤٢ دولة لصالح حل الدولتين في "الجمعية العامة للأمم المتحدة" يوم ١٢ سبتمبر الجاري.
"غزة" لم تعد شريطًا محاصرًا، بل صارت المحكَّ الذي تُختبر به القيم ويقظة الضمير. كلّ رصاصة تسقط هناك تُسجَّل نقطة سوداء في دفتر الضمير الإنساني. وكلّ صمت أمام جرائم الصهاينة في "فلسطين" يفتح الطريق لتكرارها في دول أخرى كما حدث في “قطر”. صارت "غزة" امتحانًا، لا يخصّ الفلسطينيين وحدهم، بل يخصّ مستقبل العدالة والكرامة على الكوكب بأسره.
في قمّة الدوحة، ارتفعت كلمة مصر فوق المصالح والمناورات. جاء خطاب الرئيس "السيسي" جسورًا لا يراوغ. طالب بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات ووضع حد لحالة "الإفلات من العقاب"، التي باتت نهجًا للممارسات الإسرائيلية بما يفضح نيتها إفشال جميع فرص التهدئة، وإجهاض أي تحرك جاد نحو إحلال السلام في المنطقة، وقال إن الانفلات الإسرائيلي، والغطرسة يفرضان على قادة العالم العربي والإسلامي، العمل معًا لترسيخ أسس تحمي المصالح المشتركة. فـ"مصر" التي دفعت ثمنًا غاليًا من أجل استقرار الإقليم لن تسمح بكسر إرادة الفلسطينيين أو تهجيرهم من أرضهم. وقال إن ما يحدث في غزة ليس شأنًا فلسطينيًّا، بل قضية تمسّ الأمن القومي العربي كاملا، وتؤثر على استقرار العالم بأسره. وحذّر من أن استمرار الاحتلال في سياساته المتغطرسة سيقود المنطقة إلى عواقب لا تُحتمل، وأن الحل يكمن في إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وهنا علينا الإشادة برئيس حكومة "إسبانيا" الذي ندد بإبادة شعب غزة وقال إن إسرائيل تجاوزت جميع معايير القانون الدولي، فحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، ورفع حصة إسبانيا لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين. جاء الموقف الإسباني بمثابة نفَس نقي وسط هواء ملوّث بالتواطؤ، ليؤكد أن العالم لم يمت بعد، وأن هناك مَن لا يزال يرى الحق حقًا والباطل باطلاً. وإلى جانب إسبانيا، علت أصوات من دول أخرى رفضت أن تكون شريكة في الجريمة بالصمت، فأعلنت دعمها للفلسطينيين ورفضها لتجبّر الاحتلال. هذي المواقف، وإن كانت قليلة مقارنة بجوقة المطبلين للكيان الصهيوني، إلا أنها تشكّل إشارات أمل بأن الضمير العالمي يمكن أن يُستعاد إذا اجتمع الشرفاء على كلمة سواء.
عادة ما تُصدر المؤتمرات بيانات تُحفظ في الأدراج، لكن قمة الدوحة جاءت مختلفة. فقد كشفت كلمات القادة، وتحديدًا كلمة مصر، أن اللحظة التاريخية لم تعد تحتمل التجميل ولا الدبلوماسية الباردة. "غزة" اليوم هي المِحكّ الذي يفضح العجز أو يؤكد الصمود. كل بيان يصدر عن قمة أو منظمة أو حكومة يُقاس بمقدار ما يحمله من فعل حقيقي، لا بما يُرصّع به من عبارات منمّقة. إنّ العالم يراقب: إمّا أن تكون كلمات القمة بداية لفعل حقيقي، أو أن تتحول إلى وصمة عار تضاف إلى سجل التخاذل الدولي.
إن ما يجري في غزة ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو امتحان للعالم. إما أن ينجح في إثبات أن قيم العدالة وحقوق الإنسان ليست شعاراتٍ تُرفع في المؤتمرات ثم تُداس في الميدان، أو أن يسقط في هاوية البربرية الحديثة، حيث تُشرعن التكنولوجيا القاتلة الإبادة، وتتحول حريةُ الشعوب إلى ورقة مساومة رخيصة. غزة ليست وحدها التي تُقصف، بل إنسانية العالم كلّه تتلقى الضربات معها.
كلمة الرئيس "السيسي" في قمة الدوحة، بكل ما حملته من وضوح وجسارة، ستظل شاهدة على أن مصر لم تتخلّ يومًا عن دورها الطليعي الأبرز في حماية الحق العربي دون مواءمات تجور على العدل والكرامة. وبينما يسطع موقف إسبانيا ودول أخرى لتضيء ظلام التواطؤ، يبقى السؤال مطروحًا: هل سينهض العالم ليحفظ ماء وجهه، أم يترك "غزة" وحيدة لتتحول المأساة إلى لعنة تلاحق البشرية بأسرها!
***