-أولاد- الدكتورة -سهير-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 10:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
الدكتورة "سهير عبد القادر"، أو "ماما سوسو" كما يناديها الأولاد والبنات، ليست وحسب أمًّا لابنتين جميلتين آمنتا بحُلمها وشاركتاها في صناعة الجمال، بل هي بالحق أمٌّ لجميع أبناء مصر والوطن العربي والعالم من ذوي الهمم، عبر مؤسسة "أولادنا": الحاضنة الإبداعية لذوي القدرات الخاصة. أسست "ماما سوسو" تلك الحاضنة عام٢٠١٦، انطلاقًا من إيمانها بأن الفن هو اللغة الكونية التي يفهمها الجميع مهما اختلفت الألسن، والجسر الأسرع لدمج ذوي القدرات الخاصة في المجتمع. وأطلقت المؤسسةُ "ملتقى أولادنا" الذي تخطّى كونه مهرجانًا مصريًّا لرعاية الموهوبين، ليغدو جسرًا إنسانيًا يغطي أرجاء العالم.
تحررت "ماما سوسو" من رتبتها كرئيسة مؤسسة أو مديرة مهرجان، واختارت المرتبة الأصعب: “الأمومة” بأغصانها الثلاثة: الحنو- الحزم- الرؤية. تدقِّقُ في كل تفصيلة في البرنامج الذي يمتدُّ أسبوعًا من الفرح والألوان، تحنو على دموع التعثّر في البروفات، لتغدو دموع نجاح على خشبة المسرح. تراها تنحني لتعدل بدلة طفل، وترتّبُ ضفيرة فتاة، وتُنصِت إلى قلق أمٍّ وهي تربّت على كتفها مطمئنةً بأن الغد أجمل. وحين تعلو أصواتُنا بأيات الشكر لكل ما تصنع من معجزات، تشيرُ بإصبعها نحو السماء ناسبةً الفضلَ كلَّه لله، الحاني الأعظم على الواهنين والضعفاء.
اليومَ ختامُ الدورة التاسعة من "ملتقى أولادنا" الذي اختار عنوان "لوّنها بالفرحة"، تحت رعاية الرئيس "عبد الفتاح السيسي" وقرينته السيدة "انتصار" اللذين آمنا بحقوق ذوي الهمم منذ اليوم الأول في الحكم، فوجّه الرئيسُ مؤسسات الدولة ووزاراتها لدعم الملتقى الدولي الذي شارك فيه هذا العام موهوبون من ٥٣ دولة من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، إلى جانب مصر والدول العربية. وعلى مدى الأيام السبعة الماضية، كان المشهدُ أشبه بحديقة كونية تتفتح فيها المواهب: طفلٌ مصري يعزف إلى جوار فتاة من الكاميرون، رسامة عربية تعرض لوحاتها جوار رسام من بولندا. لم يعد ذوو الهمم "أولاد مصر" فقط، بل صاروا أولاد العالم، بفضل إصرار سيدة راقية آمنت بحلمها وأصرَّت على تحقيقه بكل ما تملك من جهد وصحة ووقت ومال، لتثبتَ بالفعل لا بالكلام أن الفن الرفيع لغةٌ لا تحتاج إلى ترجمان، بل إلى إيمان ورعاية وعمل وجدية.
حُلمُها الذي أشرق للنور في "أولادنا" تجاوز كونه "مؤسسة رعاية"؛ ليغدو حضنًا واسعًا يضمُّ قلوبًا صغيرة وطاقات كبيرة، وفردوسًا أرضيًّا أثبت أن الإبداع لا يعرف عوائق الجسد ولا قيود الإعاقة. وعامًا بعد عام يزدادُ الحلمُ رسوخًا وإشعاعًا؛ ليرتسم اليومَ هذا المشهدُ المهيب الذي أشرق على الشاشات والفضائيات: أطفال وشباب من ذوي الهمم من جميع أنحاء العالم يملأون الخشبات والفضاءات بغنائهم وعزفهم ورقصاتهم ولوحاتهم وأشغالهم اليدوية، ليعلنوا للعالم أنهم ليسوا "مُستضعفين" بل أصحابُ مواهب ورسالة.
قبل سنوات، جاءتها أمهاتٌ يحملن على أذرعهن أطفالا طالتهم إعاقاتٌ جسدية أو ذهنية، وفي عيونهن دموعُ القلق على المستقبل، فاستقبلتهن ابتسامةُ "ماما سوسو" تفيضُ بالأمل والثقة بأن الله سوف يرسم لأولئك الملائكة غدًا مشرقًا بقدر الإيمان بقدراتهم وبقدر ما يُبذَل من عمل وتدريب. أولئك الأطفالُ صاروا اليوم شبابًا مشرقًا يُفرح القلب، منهم عازفون ورسامون ومطربون وأبطالٌ رياضيون. حبُّها لهم ليس شعارًا؛ بل فعلٌ يوميّ وتعبٌ، يثمر في كل عمل مسرحي، في كل لوحة فنية، في كل رقصة تتحدى الصمتَ والعجز. وهنا يكمن سرّ نجاح “أولادنا”: أنه ليس مشروعًا مؤسسيًا باردًا، بل عائلة حقيقية دافئة.
"ملتقى أولادنا" ليس مهرجانًا للفنون، بل إعلانُ مقاومة ضد أي محاولة لتهميش لذوي الهمم. فالرسم والموسيقى والرقص والتمثيل ليست "أنشطة" يؤديها أبناؤنا بل أدواتُ تعبير لإعادة الاعتبار، من أجل تشييد مجتمع لا ينظر إلى ذوي الهمم بعين الشفقة، بل بعين الشريك المبدع الجدير بالتوقير والاحترام.
حين نرى "أولادنا"، ندرك أن الحلم العصيَّ صار واقعًا بفضل سيدة رقيقة وصلبة في آن، لم تمنح "أولادها" منصاتٍ للفنون، بل جناحين للتحليق، لتعلمنا أن الإنسانية لا تُقاس إلا بحجم ما نهبُه من حبّ وعطاء.
ولم يكن لهذا الحُلم أن يترسخ لولا دعم رئيس لم يتعامل مع "ذوي القدرات" كملفٍّ هامشي، بل كأولوية إنسانية ووطنية، انطلاقًا من إيمان راسخ بدورهم في بناء المستقبل. وأثمر هذا الدعم الرئاسي في تغيير نظرة المجتمع إلى ذوي الهمم وفتح أبواب دمجهم في الفضاء العام واحتضان مواهبهم على المنصات الكبرى.
مازالت "ماما سوسو" تحلم بدعم الدولة المصرية لها لتشييد مكان يضمُّ "أولادنا" بعد رحيل أمهاتهم. وأحلمُ معها باعتباري أمًّا لشاب جميل متوحّد لا أعرف ماذا سيحدث له بعد رحيلي. نحلمُ بيد حانية ترعى نجلي "عمر" وأصدقاءه من ذوي القدرات الخاصة بعد رحيلنا. شكرًا لك أيتها العظيمة.
***