احترامُ جلال الموت


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 11:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أعلنُ عظيمَ غضبي من كل صغير النفس حاول إفساد دفاتر العزاء الجميلة التي دشّنها الطيبون على صفحاتهم في رحيل الفنان الأجمل والأطيب الأستاذ "لطفي لبيب"، الذي حصد قلوب مئات الملايين من جماهيره محليا وعربيًّا. كان على أولئك المراهقين فكريًّا أن يشهدوا الحشودَ الغفيرة، من كبار الشخصيات العامة والأدباء والإعلاميين والفنانين والأصدقاء، التي جاءت الكنيسة لتشييع الراحل الكبير ومواساة زوجته الجميلة وزهراته الثلاث، لا ليعرفوا حجمَ التوقير الذي استحقّه الفنان والمناضل "لطفي لبيب"، بل ليدركوا حجم ضآلتهم وضحالة عقولهم.
دُشِّنت صفحاتُ عزاء لا حصر لها لتوديع الفقيد الجميل، ودخل الناسُ بالملايين لذكر مآثر الراحل الذي شارك في حرب أكتوبر المجيدة واضعًا روحَه فداءَ الوطن، وبلغ من الوطنية أن رفض تكريم إسرائيل له بعد أدائه المدهش في فيلم "السفارة في العمارة". وذكر عديد الفنانين أياديه البيضاء عليهم في بداياتهم لئلا يتعثروا، وذكر آخرون كيف ساعدهم ماديًّا، وقال بعضُهم إنهم تمكنوا من أداء الحج بمساعدة هذا الرجل، الذي اتفق القاصي والداني على نُبله وتحضّره، وعلى ابتسامته الشهيرة المطْمَئِنَة والمُطَمْئِنة التي لم تفارقه لا في مرضه وفي لحظات ألمه وحتى غادرنا في هدوء وسكينة إلى رحاب الله. دخل الشرفاءُ الصفحاتِ لتوديع الراحل والترحّم عليه، فاندسّ اللؤماء لإفساد ذلك العُرس التأبيني المهيب وتعكير صفو النهر بدنس أرواحهم: يسبّون ويُكفّرون ويلعنون كلَّ مَن ترحّم وكلَّ مَن واسى! لم يطلب منهم أحدٌ أن يترحّموا. كان يكفينا أن يصمتوا، فصمتُ الظالم عبادة. لكن هيهات أن يصمتوا ودورهم في الحياة نفثُ السموم في الهواء لإفساد نقائه وإيلام القلوب؟!! فإذا كان تكفيرهم للراحل قد آلمنا نحن أصدقاءه، فهل بوسعكم تخيُّل مدى ألم زوجته وبناته؟!
متى تحولنا إلى وحوش ضارية تتلذذ بنهش فرائسها؟ نحن المصريين العظماء الذين تربينا في حضن وطن عظيم علّمنا أن احترام عقائد الغير جزءٌ لا يتجزأ من احترام عقائدنا؟ في هذا الوطن نشأ صديقان خالدان، أحدهما اسمه "نجيب الريحاني"، والآخر اسمه "بديع خيري"، صنعا معًا أعظم القطع الفنية التي تزهو بها مصرُ. عاشا صديقين أكثرَ من نصف قرن، ولم يعرف أحدُهما، ولا عرف الناسُ أن أحدهما كان مسلمًا والآخر مسيحيًّا إلا في لحظات العزاء! فماذا حدث في "كودنا" الأخلاقي لنغدو هكذا، ونشهد أولئك الذي ينتظرون رحيل القامات والرموز المسيحية لكي يتنمروا ويتباذئوا؟!
لماذا بات عليّ في كل بوست أو مقال عن رحيل رمز مسيحي من رموز العلم أو الفن أو السياسة أن أضع مناشدةً تتصاعد لتغدو مطالبةً ثم تحذيرًا بالحظر من الصفحة، لكل مَن يتطاول على عقيدة الفقيد ويتنمر على شخصه ويلعنه ويكفره، ثم يتمم نطاعته بأن يحظر علينا الترحم عليه، شامتًا شاتمًا لاعنًا مُكفّرًا كلَّ مسلم يطلب لروحه السلام ولقلبه الرحمة؟! ألا يعرفون أن للموت جلالاً وقداسة على الجميع توقيرها؟! ألا يدركون أن أسرة الفقيد تكون في حالة من الهشاشة النفسية بحيث لا تتحمل مزيدًا من الوجع والإيلام؟!
أصبح شيئا مزعجًا لا يُطاق! في الأعياد، يحرّمون علينا معايدة أشقائنا المسيحيين! وفي لحظات المرض يحرمون علينا تمنى الشفاء إلا للمسلمين! وفي لحظات الرحيل يحرّمون علينا مواساتهم والترحم على موتاهم! ألا خسئوا وبئس ما يصنعون! الجماعات الإرهابية حاولت تمزيقَ وحدة المصريين وشق الصف بين المسلمين والمسيحيين، ونجحنا في دحرهم والقضاء عليهم، لكنهم تركوا أذنابهم ترعى في صفحات التواصل الاجتماعي يمارسون إرهابهم المعنوي واغتيالاتهم الأدبية! وعلينا مواجهة هذه الظاهرة المريضة بكل قوة وحسم. لأن قتل الروح لا يقلُّ خسّةً عن قتل البدن.
ولأن الرخص لا يتوقف عند خطٍّ ولا يحدُّه قاع، فإن المزايدين الذين لا يحترمون للموت جلالا ولا للحظة الوداع إكبارًا؛ لا تقف نطاعتُهم عند تكفير الموتى وتحريم الترحُّم عليهم، وحصر تمني الشفاء إلا لمرضى المسلمين، بل تجاوزوا للسخرية من كبار السن! فهذا عجوزٌ وتلك شمطاءُ؛ وكأن الناسَ يأخذون من أعمارهم ليكبروا! منذ متى صرنا نتنمَّرُ على العقيدة والمرض والموت والأعمار؟! منذ متى والمصريون قد تخلّوا عن "الكود الأخلاقي" هكذا؟! في أي بيئة نشأ أولئك المتنطعون؟! وعلي يد أي "دَعِيٍّ" مخادعٍ تربّوا فحجب عنهم قولَه تعالى: "وإن كنتَ فظَّا غليظَ القلب لانفضّوا من حولك"؟ نحن لا نطلبُ منهم الارتقاء إذْ القاعُ امتلأ؛ فأغلبُ الظن لن يرتقوا؛ ولن نطمحَ أن يطلبوا، مثلنا، الشفاءَ لجميع المرضى، والرحمةَ لجميع الموتى، فعلى قلوبهم أقفالُها. فقط نطلبُ كفَّ ألسنهم الطولى، والانشغالَ بأمورهم عنّا، والبحث عن عوراتهم وسوءاتهم ليُخفوها عن أنظارنا! نرجوهم أن يتحلّوا بشيء من "الكرامة" ويتركونا في أحزاننا على الراحلين: نواسي بعضنا ونناجي الرحمنَ أن يرحمنا.


***