-الجونة- … وطنُ الجمال والفن
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 10:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
حين فكَّر المهندس "سميح ساويرس" في إنشاء مدينةٍ في الصحراء، لم يشيّد منتجعًا سياحيًّا أنيقًا يُطلُّ على البحر الأحمر، بل رسم لوحة جمالية وحُجَّة أخلاقية وفلسفةً عمرانية وثقافية متكاملة: فأثمرت مدينةً مدهشة على شاطئ الوطن الشرقي تُدار بالفكر لا بالصدفة. مدينة تشبه "المدينة الفاضلة"، حيث تحوّل احترامُ القانون مع الوقت إلى ثقافة وأسلوب حياة فطري وتلقائي وطبيعي. الضميرُ والأخلاق والتحضر والنظافة والذوق والهدوء هو "الكود" الذي يحكم هذي المدينة. ليلُها لا يعرفُ الخوف، صباحها لا يعرف الضجيجٍ، شوارعها لا تعرف الفوضى ولا كسر قواعد المرور، وأرصفتها لا تعرف معنى إلقاء ورقة في الطريق. الأهل آمنون على بناتهم لأن هذه المدينة نزعت من معجمها كلمة: "تحرش".
"الجونة" التي شيّدها حالمٌ جسور قبل ٣٥ عامًا، ليست حيّزًا عمرانيًّا وجغرافيًّا مدهشًا، بل "فلسفة" حيّة تقول إن الجمال ليس ترفًا، والنظام ليس قيدًا، والشعوب التي تهندس عمرانها بوسعها هندسة أخلاقها، لكي يتشكّل هذا “الكود” الساحر الذي يميز "الجونة" ونرجوه في سائر بقاع الوطن. السلوك الرفيع ثقافة، واحترام القانون عادة، والتهذب هو اللغة الرسمية التي يفهمها الجميع دون ترجمة.
في كلمته في افتتاح الدورة الثامنة من "مهرجان الجونة السينمائي الدولي، قال المهندس "سميح ساويرس": “لو كان أحدُهم أخبرني قبل ٣٥ عامًا أن الجونة ستصير على ما هي عليه الآن؛ لكنتُ هربتُ ولم أبدأ أبدًا. لأنني كنتُ سأوقن بأنه المستحيل، والمستحيل لا يتحقق.” ولكنه بالفعل قد حقق المستحيل، لأنه ببساطة آمن به. يقول "بولو كويلو"في رواية "الخيميائي":” إذا حَلُم الإنسانُ حُلمًا وآمن به، تآمر الكونُ من أجل تحقيقه.” وتحقق الحلم الذي غُرِس في رمال البحر الأحمر، فأنبت مدينة من الجمال والعمران والوعي، وتحوّلت المساحة الخالية إلى دُرّةٍ على جبين المقاصد السياحية، وصار المهرجان الفني الذي يحمل اسمها وسامًا ترنو إليه السينما العربية والعالمية، لا لفخامته وضخامته وعالميته وحسب، بل كذلك لأنه رفع شعارًا يليق بالجمال: “سينما من أجل الإنسانية”، فصار مخرجو العالم وفنانوه ومنتجوه يبحثون في قلوبهم عن ومضات الإنسانية لكي ينتجوا أفلامًا تسافر إلى مصر وتحظى بشرف المشاركة في مهرجان الجونة السينمائي الدولي.
"الدورة الثامنة من المهرجان تزامنت مع الفرح بوقف الحرب على فلسطين، على عكس العام الماضي حيث كان الحزنُ على أشقائنا في غزّة يخيّم على الوجوه،" هكذا بدأ المهندس "نجيب ساويرس" كلمتَه في حفل الافتتاح الذي كان مشرقًا بالفن الرفيع والجمال والأناقة كعادة جميع الدروات السابقة لمهرجان وُلد بدرًا، ولم يمرّ بعُسر البدايات، عكس جميع مهرجانات العالم الفنية؛ لأنه يُدار برؤية علمية جادة، وبعشق حقيقي للوطن، وشغف برفع رايته في أرجاء الأرض. ومنذ عامه الأول ، نجح في وضع اسمه على خريطة المهرجانات الكبرى، فاستضاف أفلامًا حصدت جوائز في "برلين" و“صن-دانس" و"لوكارنو"، لكن تظل لجائزة مهرجان الجونة مذاقًا مختلفًا، أشهى وأجمل، يحمل دفء الشرق، وروح المصريين الحلوة، ولمسة من شغف التقاء الصحراء بالبحر.
ما يميّز مهرجان الجونة أنّه لا يقلّد أحدًا. فلا هو نسخة من "كان" ولا هو ظلّ لـ"فينيسيا”. هو مهرجان مصريّ المذاق، عالميّ الأداء، يمتلك شخصيّته المستقلة وهويّته البصرية المبهرة. لهذا يحلم جميع فناني العالم بالخَطو على سجادته الحمراء.
في كل دورة من مهرجان الجونة السينمائي، تتكرّس مصرُ مركزًا للفنّون الرفيعة، ونقطةَ التقاء بين الشرق والغرب. وفي هذي الدورة، التي بدأت يوم ١٦ أكتوبر وتستمر حتى يوم ٢٤ منه، يشارك سبعون فيلمًا من القارات الخمس، إلى جوار الندوات والحوارات وورش العمل وغيرها من الفعاليات الجميلة التي لا تتوقف على مدى أسبوع المهرجان.
احتفلت هذه الدورة بخمسين عامًا من السينما للنجمة الجميلة "يسرا" بتدشين معرض لصور نادرة من أفلامها، واحتفلت بالمخرج العبقري "يوسف شاهين" بإنشاء ماكيت قطار حقيقي بالحجم الطبيعي استلهاما من فيلم "باب الحديد"، داخله تُعرض أفلام هذا المخرج الفز.
مهرجان الجونة مشغولٌ بالأفلام الإنسانية التي تنتصر للفقراء والكادحين والمرأة المعيلة وأطفال الشوارع؛ لأن المثقف الحقيقي يدرك أن الدراما بوسعها أن تغيّر العقلَ الجمعي وتعيد تشكيل المجتمعات، بل تعيد صياغة القانون ليغدو أكثر رأفة ورحمة بذوي العوز؛ مثلما فعلت رواية "البؤساء في فرنسا"، وفيلم "جعلوني مجرمًا" من إخراج "عاطف سالم"، ومثلما لخص فيلم "البداية" للعظيم "صلاح أبو سيف" فكرة الرأسمالية المتوحشة، ومثلما لخص فيلم "الزوجة الثانية" فكرة القهر وخداع البسطاء، إلى آخر قائمة الدراما العظيمة التي أثرت في الشعوب وغيرت في جوهرها الفكري والحضاري.
كل عام و"الجونة" مشرقة، ومهرجانها السينمائي تاج على جبين وطن الجمال والفن.
***