-صبحي-… المايسترو يشرقُ في -الأمم المتحدة-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 11:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
ليس كلُّ تكريم يُكتب بالحبر ويسطعُ بالأوسمة. بعض التكريمات تُكتب بوهج مِداد أصحابها، وتُصاغ برهافة الموهبة وصلابة الموقف. الفنان المحترم "محمد صبحي" من هذا النوع الذي إذا تكلّم، توقف التاريخُ ليُنصِت. حين أعلنت "الأمم المتحدة"، عبر منصّة "اتحاد المبدعين العرب"، منحه "وسام التفرّد في الإبداع الثقافي" ليكون "سفير المبدعين العرب في الأمم المتحدة"، لم يكن التكريمُ شهادةً لـ"صبحي" وحسب، بل شهادةً لمصرَ التي لا تتوقّف عن إنجاب الأساتذة في جميع الحقول، وإقرارًا من التاريخ أنه لا يغفلُ عن فرائده. في مسرح "مدينة سنبل" أشرق "صبحي" بكامل بهائه ليتسلّم درع التكريم من الدكتور "أحمد نور" رئيس اتحاد المبدعين العرب، في مشهدٍ تاريخي أبهج قلبَ مصر وهي تحتفي، مع نخبة من رجال الدولة والإعلاميين والفنانين والأدباء، بواحدٍ من أنبل فنانيها، استطاع أن يتجاوز حدود وطنه، ليصبح جزءًا من ذاكرة العالم الثقافية.
"صبحي" ليس فنانًا مثقفًا وحسب. بل هو صانعُ وعي. مهندسُ ضمير. معماريٌّ يمزج الفن بالفكر عبر سلسال الكوميديا؛ فغدا أسطورة لا تتكرر. على خشبته لا تقف الشخصياتُ، بل تقفُ الأسئلة. الأسئلة التي نخشى طرحها رغم موارها في عقولنا، فيُصرّ هو على انتزاعها من صدورنا وإطلاقها في الهواء. يكفي أن يبدأ المشهدُ فينهض شيءٌ داخلنا، شيء لا يوقظه إلا الفنُّ حين يكون صادقًا لا يتورّط في الزيف ولا يبيع موهبته على عتبات الضوء.
أسمّيه: "مايسترو"؛ لأنه مُعلِّمٌ وقائدٌ يحمل عصا وجدانٍِ تُحرّك الوعي الجمعي. مَن تابعه يعرف أنه تجاوز كونه فنّانًا جميلا، بل صار مشروعًا حضاريًّا متكاملاً. منذ "هاملت" وحتى "فارس يكشف المستور"، والقادم بإذن الله، ظلَّ الرجلُ يشتغل بالورقة والقلم والضمير، دون أن ينشغل بالتصفيق والأضواء. آمن، وجعلنا نؤمنُ معه، بأن "المسرح" ليس تسلية أو ترفيهًا، بل محكمةٌ، ومرآةٌ، وجرسُ إنذار. جميع أعماله في السينما والدراما التليفزيونية والمسرح حملت همومَ الوطن ومحنة الإنسان. على خشبته، الشخصية لا تُجسَّد، بل تُحاك. والحكايةُ لا تُقال، بل تُصارع. والضحكةُ لا تُرفّه، بل تفتح نافذة الوعي والتأمل.
أدرك المايسترو بوعي مهندس المسارح القديمة، أن الجمهور شريكٌ لا متفرّج، والفنان ليس "ممثلا" بل “ضميرًا” يشتعل. ولذلك نخرج من مسرحه، أخفَّ وأثقلَ. نتخفّفُ من الزيف، ونُثقَل بالأسئلة.
"محمد صبحي" من الفنانين القلائل الذين حافظوا على المسافة المقدسة بين الفنان والشارع، بين الفنان والدولة، بين الفنان وذاته. لم يُسقط قدمَه في وحل الشعبوية، ولم يرفعها على منصّة الادّعاء. بل اختار دائمًا الطريقَ الأصعب: أن يخدم الناس من خلال وعيهم، لا عبر غرائزهم. لهذا نجح في صنع ذاكرة كاملة، وخلق علاقة حميمة بين الجمهور والمسرح. فلو سألتَ أي إنسان عن أول ما يرد بخاطره حين يسمع اسم: "محمد صبحي"، سيقول من فوره: “الصدق". والصدق، في زمن الضوضاء والزيف، أمرٌ نادرٌ وفريد مثل "وسام التفرد"، ومثل صاحبه، الذي يُعدُّ واحدًا من أنقى الفنانين الذين مرّوا فوق الخشبة منذ أن عرفت البشرية كلمة "مسرح".
لا أحد من جيل الثمانينيات وما تلاها لم يتعلّم شيئًا من "صبحي". علّمنا أن تعلّم أن الضحك النابع من الوعي يُنقذ، وأن الحزن يمكن أن يُروى بكرامة، وأن الفن ليس ترفًا، بل شرفًا. في زمن كان المسرح فيه يترنح تحت ضربات السوق السريعة والاستهلاك، ظلّ "صبحي" واقفًا وحده: عنيدًا، رفيعًا، لا يساوم. لهذا سجّلت "الأمم المتحدة" اسم "صبحي" في خانة: "الفنانين الذين صنعوا فرقًا في وجدان شعوبهم”. فجاء التكريمُ لذاكرة أجيال تربّت على وضوح الرجل وصدقه واستقامة لغته وفنه. أجيال وجدت في "صبحي" أبًا ثقافيًا، لا يربّت على الكتف وحسب، بل يوقظ الضمير. ولذا يحقُّ له أن ينال لقب "ضمير المسرح العربي". والضمائرُ لا تُكرَّم بل يُحتفى بها.
وسام "التفرّد في الإبداع الثقافي" ليس جائزة تزيّن الصدر، بل ختمٌ بعلم الوصول لفنان يقول: “لقد أديتُ الرسالة.” لكننا نردُّ عليه: "لا. الرسالة لم تكتمل، ونطمعُ في المزيد.” غير أن "صبحي"، بطبعه، لن يعتبرها محطةَ وصول. فالمايسترو لا يتوقف، بل يبحث عن المعزوفة التالية، المشهد التالي، الفكرة التي لم تُقَل بعد. فهو رجل يكره السكون والراحة. لهذا يقع في الإعياء بين الحين والآخر؛ فتنخلع قلوبُنا خوفًا عليه.
"محمد صبحي" يشرقُ اليومَ في "الأمم المتحدة"، مثلما أشرقت شمسُه في وجدان جماهيره منذ نصف قرن، يحمل عصا المايسترو التي تقودُ وتعلّم وتُبهج وتوقظ الضمير.
مبروك للمايسترو. ومبروك لمصر العظيمة لأن ابنًا من أبنائها يحمل حقيبة سفير للفنانين العرب، لا ممثلًا لمصرَ والعروبة وحسب، بل ممثلًا لجمال الفكرة حين تتجسد في إنسان.
***