“فيروز-… ما نجا منّا


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8538 - 2025 / 11 / 26 - 11:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

في تلك اللحظات التي يضيق العالمُ بنا، ونضيقُ به، نبحث عمّا يذكّرنا بأنّ في الإنسان بقيةً صالحة لم تُستنزَف بعد. بعضنا يلوذ بالوحدة، بعضنا يعتمرُ الصمتَ، بعضنا يقصدُ الطبيب النفسي، وفريقٌ، مثلي، نقصد "فيروز”. نضغط زرَّ "إنقاذ الروح"، فيغنّي الهواءُ نغمًا ينتشلك من القنوط ويعود بك طفلا لم يعرفِ الحَزَن. صوتُها لا يعِدُنا بأن الأمور ستتحسّن، لكنه يذكّرنا بأنّنا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن هناك من سقط مثلنا ونجا، وترك لنا خارطة النجاة في أغنية.
حين يضربني الحنينُ إلى مصرَ، ذات سفر، أذهب إلى "أم كلثوم" و"عبد الوهاب”. وحين يضربني الحنينُ إلى الإنسانية والطفولة، أُنصِتُ إلى "فيروز". وأنا لا أعرف "فيروز" من عدد الألبومات ولا من تواريخ الحفلات، بل من تلك اللحظة القديمة التي انفتح فيها الصبحُ في بيتنا على صوتٍ يطلُّ من الراديو، فيتّسع البيتُ ليصيرَ حديقةً مترامية، ويتّسع قلبي ليغدو بمساحة الكون. منذ ذلك اليوم، صارت "فيروز" جزءًا من "الُمناخ"، مثل الضوء والهواء، لا ننتبه إليه إلا إذا اختفى.
"فيروز" ليست صوتًا جميلًا، وفقط". مَن يراها هكذا لا يعرف أين تُخزّن الروحُ براهينَها. بل هي اختبارُ الإنسان كلّ صباح: أمازال في القلب مكانٌ للبراءة؟ أمازال فينا ما يكفي من الطيبة لنصدّق أن العالم، رغم كل شيء، قادر على أن يلمع ويشرق؟ صوتُها يختبر الجزءَ الأكثرَ رهافةً منّا، الجزء الذي يُصرّ على أن يصدّق أنّ "الخير" ممكنٌ وأن "الجمال" قائمٌ لا يذوي؛ مهما علت أمواجُ القبح في عالم يتقاتل من أجل الصغائر. حين نسمعها نكتشف أن داخلنا طفلًا واقفًا عند النافذة، يراقب المطرَ بدهشة. طفلٌ لا يفهم السياسة، ولا يعبأ بأسعار الدولار، لكنه يوقن أن في الغيم وعدًا وفي قطرات المطر لآلئ منثورة في السماء.
غنّت عن الطاحونة، عن النبع، عن عن الطيارة الورقية، عن القمر الذي تسرقه البنات، عن النوافذ التي تنظر إلى الجبل، عن الأطفال الذين اختبئوا من الزمن ونسوا أن يكبروا. غنت لبيروت، ومصر، والقدس البعيدة، لكننا في كل مرّة نسمع سيرتَنا نحن، لا سيرة الأماكن، ونتساءل: من أين يأتي هذا الضوء؟! أسطورية "فيروز" أنها تحوّل الجغرافيا إلى حالة شعورية. بيتها ليس في "أنطلياس" أو في "الروشة"، بل في تلك المسافة الدقيقة بين القلب والذاكرة، حيث تختلط روائح القهوة بنشرات السادسة صباحًا، ويمتزجُ صوتُ الأمهات وهنّ يجهزن لنا الحقائب المدرسية بزمير بوق الباص تحت البيت، لنعرف أن يومًا جديدًا مليئًا بالفرح والمعرفة في انتظارنا.
نحن الذين تكسِرُنا الحروبُ وتُحزِنُنا الصراعاتُ، وتُربكُ أرواحَنا الطائفياتُ والعنصرياتُ والظلمُ والمكائدُ والبغضاء، نعرفُ أن لا شيء يداوي العالم مثل الصوت الذي لا يجرح أحدًا. الصوت الذي يشبه يدًا تربّت على كتفك، لا لتهوّن عليك، بل لتذكّرك بأنك كنت يومًا طفلًا يستطيع أن يثق بهذا العالم.
عرفتْ "فيروز" كيف تكون مُحايدةً ومُنتميةً في آن واحد؛ وتلك مَلَكةٌ نبيلة لا يملكها إلا ذوو العزم. وقفت فوق جراح الطوائف والحروب، لم ترفع سلاحًا، بل رفعت طبقة الصوت إلى "الجواب"، فهدأت حولها أصواتُ البنادق وهبطت إلى "القرار”. لم تقل لنا مَن على حقّ ومن على باطل، بل سألت سؤالًا آخر: ما ثمن أن نخسر إنسانيتنا ونربح السجال؟ لهذا صارت "فيروز" مرجعًا عاطفيًّا لوطنٍ لم يعد يثق كثيرًا في المراجع.
الأكثرُ إدهاشًا في "فيروز" أنها تمنحك ذاكرة جديدة ليست لك. ذاكرة مدينة لم تعشْها، وطفولة لم تُخبّئ لك ألعابها، وفجرٍ لم تنتظره في بستان يطلّ على جبل. ومع ذلك تشعر أنه كله ملكك. هكذا تعمل الأسطورة: تستعير منك جرحك، ثم تعيده إليك فرحًا وبراءة كأنك قابلت نفسك بعد غياب طويل.
نحن، الذين فتحت "فيروز" عيونَنا على أوّل فكرة عن الجمال، نحن الذين كبرنا وتغيّرت ملامحنا، ونضجت أفكارنا، ما زلنا نحفظ الطبقة الموسيقية نفسها التي تدخل القلبَ وتخرج دون إذن. هذا ما يجعلها بالنسبة لنا مقياسًا للزمن: نقيس أعمارنا بكيف تغيّر معنى أغنياتها في وعينا من مرحلة إلى أخرى.
حين منحتني "رابطة إحياء التراث العربي" في سيدني الأسترالية جائزةَ "جبران للإنسانية" عام ٢٠١٤، اخترتُ أن أتقلّد وسامَ "جبران" الذهبي يوم عيد ميلاد فيروز ٢١ نوفمبر. لا أدري ما الرابطُ بين "فيروز"، و"جبران خليل جبران". ربما الطفولة، ربما نُشدان عالمٍ أكثر جمالا وهدوءًا، لا حروب فيه ولا صراعات، ربما النزوع للمحبة التي لا تسقط، وربما لأنني ابنةٌ لصوت “فيروز”، وأدب “جبران”.
في عيد ميلادها أقول لها: أنتِ ما نجا منّا من لطف، وعذوبة وبراءة. صوتُك لم يَعِدْنا بالمعجزات، لكنه منحنا رفاهيّة أن ننهزم دون أن نسقط.


***