-محمد صبحي-… والمُخرِصون!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 11:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أما "محمد صبحي"، فهو أعرفُ من أن يُعرَّف، هو المُعلِّم عبر الفن والمُصلحُ عبر الكوميديا. ولهذا أُطلقُ عليه: “المايسترو"، لأن اسمَه صار "معيارًا" يُقاس به المسرحُ حين يُراد له أن يكون فنًا لا تسلية، وتربيةً لا استهلاكًا. هو الذي جعل الكوميديا أداةَ إصلاحٍ لا مُخدّرَ إلهاء.
وأما "المُخرِصون"، كما تقول المعاجم، فهم: “الذين يقولون الباطلَ حدسًا وتخمينًا، لا عن يقين ومعرفة.” المُخْرِصُ ليس مخطئًا فحسب، بل متجرّئٌ على الحقيقة، واللغة العربية لا تترك له مخرجًا أخلاقيًا: فإمّا علم… أو صمت.
أكتبُ هذه المقدمة اللغوية بمناسبة حملات الهجوم الشرس على رموزنا المضيئة طمعًا في إطفائها؛ حتى ينتشر الغثُّ والرِّخصُ في أرض مصر العظيمة التي لم تتوقف منذ ميلادها قبل آلاف السنين عن إنجاب الهامات العالية وشواهق القامات. على مدار الأيام الماضية وألسن المُخرصين تلوك سيرة المايسترو "محمد صبحي"، في واقعة انفعاله على سائقه، عقب خروجه من مسرح الهناجر. وهنا مثال فجّ على اغتيال السمعة عبر أنصاف الحقائق. مقاطعُ مبتورة، تخرصاتٌ دون علم، ومزايداتٌ رخيصة، انتهت إلى نهش تاريخ فنان قضى نصف قرن في الدفاع عن القيم والأخلاق والرقيّ.
ولأن "أنصافَ الحقائق" أخطرُ من "الكذب الكامل"، اِجتُزِئَت لقطاتٌ خاطفة من الفيديو الكامل، فلم نر إلا انفعال "صبحي" قائلا للسائق: “هات المفتاح"، ثم قاد سيارته وترك السائق يركض وراءه. قيل إن السائق كان في الحمام، وقيل إن "صبحي" متكبّرٌ يُعنّف البسطاء، وإن ما قدّمه في "ونيس" من قيم النبل والأخلاق، زيفٌ وبهتان… وفجأة نبتت للجميع أجنحةُ ملائكة "تطبطب" على رأس السائق الطيب، وتصفعُ النجمَ الكبير الذي أفنى عمَره لنتذوّقَ حلاوةَ الفنّ الرفيع، وسط صنوف الإسفاف التي نتجرعُها صاغرين رغمًا عن أنوفنا.
وكنتُ من الذين رقَّت قلوبُهم على السائق، لكنني أعرفُ "صبحي" عن قُرب وأعلم طبيعته المنضبطة، وعايشتُ محنته الصحية الأخيرة لهذا، وقبل أن أعلم الحقيقة كاملة، كتبتُ على صفحتي ما يلي:
(مَن منكم بلا خطيئة. أيها الملائكة... ارفعوا أجنحتكم لأنها تحجب عنّا الشمس. كفى بحق الله. "محمد صبحي" خارجٌ لتوِّه من عدة أزماتٍ صحية خطيرة ومتوالية، كدنا، لا سمح الله نفقده فيها، والضغوطُ عليه هائلة، وهو بعدُ لم يتجاوز محنةَ فقده لرفيقة حياته الجميلة "نيفين رامز"، رغم مرور السنوات على رحيلها، ولا أظنه سينجح في تجاوزها. الجميع يعلم أن "صبحي" مريضٌ بالانضباط وهوس الإتقان. حتى في البروفات لا يسمح بأي هِنَة أو هفوة أو تأخير. وفنانو فرقته يحبّون "كود الإتقان" هذا؛ لأنه سر عظمة أعماله وخلودها. نهج "صبحي”: Failure is NOT an Option؛ لهذا أطلقتُ عليه في أحد مقالاتي: "الديكتاتور محمد صبحي". لكنه في غير وقت العمل أرقُّ إنسان في الوجود. هزار وطيبة وحنو وعذوبة. ولحظة خروجه من الحفل كانت الجماهير تتدافع نحوه، ما سبب له ضغط عصبي هائل لم يتحمله وهو للتوّ خارجٌ من العناية المركزة. كفى تمزيقًا في رجل قدّم لنا عمره لكي نضحكَ ونتعلمَ ونفكرَ ونُصلح. أَمِنْ لحظة ضغط نُعلق المشانق وننسى تاريخه؟! أُقبّلُ رأسَ السائق وأعتذر له. وواثقة أنه سامح الأستاذ، لأنه يعرف معدنه الكريم الذي لا يتعالى ولا يظلم. فرجاء لا تزايدوا. كلنا نتعرض لضغوط وننفعل على أصحابنا وأولادنا ونسامح ولا نُعلق المشانق كما تفعلون مع صاحب 50 عامًا من العطاء والفن الذي لا شبيه له. من منكم بلا خطيئة فليرمِه بحجر.)
أما حقيقة الواقعة فشيء مختلف تمامًا وهو ما عرضه الصديقُ المخرج "هشام السنباطي"، رئيس المهرجان، بشهود العيان وكاميرات المراقبة. الحقيقة تقول:
السائق لم يكن في الحمام، بل كان جالسًا جوار باب المسرح يتفرّج على "صبحي" وهو يتعثّر في خُطاه وسط تدافع المعجبين وكاد يقع على الأرض مرتين. ومضى أكثر من ربع ساعة حتى تمكَّن "صبحي" من الوصول إلى سيارته وسط الزحام الشديد والتدافع، فلم يجد السائقَ والسيارةُ مغلقة. فهاتف شقيقتَه لتكلّم السائقَ، فهو سائقُها ورقمه ليس مع الأستاذ. وبعد كل هذه المهزلة ظهر السائقُ؛ فقال "صبحي” بحسم: “هات المفتاح"، ودخل سيارته ومضى. السائق ركض خلف السيارة بضعة أمتار، وبمجرد أن لمحه الأستاذُ في المرايا توقف. وانتهت الواقعة. لكن المُخرِصين لم ينتهوا وسنّوا ألسنَهم الطولى للنيل من هذا الرجل النبيل، الذي عزَّ مثيلُه.
يقول القرآن الكريم: "والكاظمين الغيظَ، والعافين عن الناسِ، واللهُ يحبُّ المحسنين"، وهذا ما فعله "صبحي" حرفيًّا: كظم غيظَه، وعفى عن السائق، ولم يقطع عيشه. أيها المُخرصون، كفى نهشًا في الرموز، لأن "صبحي" شعلةٌ لا تنطفئ. نعتذرُ لك يا "مايسترو"، ونحبك.