على أبواب المتحف… كلُّنا مصر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 11:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

عام ٢٠١٤، دعتني قناة "الغد العربي" مع نخبة من أديبات وشاعرات الوطن العربي، في برنامج "صباح مساء"، للحديث عن: "العيد الوطني" للشعوب. وجاءت كلُّ أديبة مرتدية "الزي الوطني" لبلدها: البحرين، السعودية، الإمارات، المغرب، عُمان، الأردن…. ومصر. وكان طبيعيًّا أن أرتدي في الحلقة: "الزي الفرعوني". غير الطبيعي هو الهجوم العنيف والسخرية الُمرّة التي واجهتني بعدها، وصورتي بالملابس الفرعونية التي تناقلتها الصفحات مصحوبة بآيات التنمّر والسُّباب! المدهش، والمحزن، أن بعض الساخرين كانوا من المثقفين! وحين سألتهم: وما هو زيّنا الوطني؟ ارتجّ الأمرُ عليهم ولم يجب إلا القليلُ قائلين: “اللبس الفلاحي".
كنتُ أعلم أن السؤال صعبٌ؛ لأن مصر بضخامتها وتعدديتها وغزارة تاريخها: عصيّةٌ على التصنيف. من الصعب اختصارها في زيّ واحد. لهذا عدتُ بالزمن إلى خط البداية، إلى الجذر الأول للهُوية المصرية، إلى الحضارة التي منحت العالم معنى الوطن والحكمة والفن والكتابة والطب والهندسة. فاخترتُ بداهةً: الملابس المصرية القديمة.
ومع عُسر سؤال "الزي الوطني"، يتجاور سؤالٌ آخرُ لا يقلُّ تعقيدًا: “ما هو اليوم الوطني لمصر؟"، الإجابة المألوفة: ٢٣ يوليو، يوم ثورتنا عام ١٩٥٢. وقبل ٥٢، ماذا كان يومنا الوطني؟ هل هو ٢٨ فبراير يوم استقلال مصر عن بريطانيا وإعلان المملكة المصرية؟ أم ٤ فبراير يوم حادثة قصر عابدين عام ١٩٤٢؟ أم عشرات بل مئات الأيام الماجدة التي يصحُّ أن تكون عيدًا وطنيًّا لمصر عبر تاريخها الطويل؟
مشكلة مصر في جمالها وعراقتها وأمدها التاريخي بالغ القدم، على عكس الدول التي نشأت قبل بضعة عقود لم تتم القرن، يسهُل تحديد يوم ميلادها. أما مصر، ذات السبعة آلاف عام حضارة وعشرات الآلاف عام من السعي الحضاري، من العسير اختصارها في يوم مجيد واحد، وهذا سرُّ خلودها وهيبتها، وعسر تصنيفها وتأطيرها في زي ويوم. وهذا عينُ ما قصدته الجميلة: “سمر فرج فودة" في كلمتها التي رجّت الرأي العام. وهو بالضبط سرُّ سعادتنا ونحن نشاهد الصور الحية لملايين المصريين المحتشدين أمام بوابات "المتحف المصري الكبير"، بجميع الطوائف والأزياء والطبقات، التي من الصعب تأطيرها ولملمة شتاتها.
بعد افتتاح المتحف، اشتعل الفخرُ بتاريخنا الأعظم في قلوب المصريين بجميع طوائفهم وانتماءاتهم وأزيائهم: العصية على التوحد والاختصار. الجلباب إلى جوار العباية. البدلة جوار الجينز. الطرحة جوار الخصلات المتطايرة؛ جميعنا مصريون نفخر بحضارتنا وانتمائنا لوطن خالد. وكأن بالمصريين عطشًا للوقوف على بوابة المجد؛ نفدت التذاكر من فورها فاشتري المصريون تذاكر الأجانب الغالية، وحين نفدت هي الأخرى انتشرت الحشودُ في ساحات الهرم في مشهد تاريخي مهيب وغير مسبوق؛ لم نره من قبل. كان احتفالًا صامتًا، وملوّنًا، بالهوية. تجمّع عفويٌّ لشعبٍ يذكّرُ نفسَه بأنه لا يشبه أحدًا… ولا يشبه أحدٌ.
جاء الناس من جميع الجهات، يحملون ألوانهم ولهجاتهم وطرائقهم في الفرح والضحك والانبهار. طفلة صغيرة وتلوّح بعلم، إلى جوار شيخٍ يلتقط صورة بهاتفه، وكأنّ التاريخ فتح ذراعيه وقال: "ادخلوا جميعًا، أنتم الصورة الكاملة.” فمصر لا تُختصر، لأنّ جوهرها التعدد. هي ابنة النهر الذي لا يملّ من الاختلاط بالطين، والهواء، والناس. وكلّ من يقف على ضفّتها يأخذ منها ملامح مختلفة، ثم يعود ليضيفها إلى المزيج الكبير الذي اسمه الوطن. من الدلتا إلى النوبة، من الواحات إلى الأحياء الراقية، من الأرياف إلى المدن الصاخبة؛ كلٌّ يحمل مفتاحًا صغيرًا من مفاتيح الشخصية المصرية، ولا يكتمل اللحن إلا بجميع المفاتيح.
المتحف الكبير في ذلك اليوم لم يفتح أبوابه للآثار فحسب، بل لذاكرةٍ حيّة نابضة. كأنّ الأهرامات تراقب أبناءها وهم يعودون إليها بعد غياب، متنوعين كما تركتهم منذ آلاف السنين: لا نسخة واحدة منهم، ولا قوالب جاهزة، بل حياةٌ تتجدّد وتختلف في كل تفصيلة. عبقرية مصر أن زيّها مُطرّزٌ بخيوط الضوء القادم من شمسها القديمة. يعيشُ أهلُها بتجاورٍ لا بتنافر. تختلف الأصوات واللهجات، لكن اللحن واحد. مقطعٌ من نشيدها الأبديّ:: أنا المصريّ… كريم العنصرين.
على أبواب المتحف، حيث يلتقي الحجر بالروح، وحيث تتجاور التماثيل الصامتة مع صخب الزوار، تتأكد أن مصر لا تُعرض في فاترينات زجاجية، بل تمشي بين الناس في هيئة أمٍّ عظيمة تُوزّع ذاكرتها على أبنائها. وحين ينعكس ضوء الشمس على الواجهة الزجاجية للمتحف الكبير، يمدُّ الماضي يده إلى الغد، ويهمس: “أنا مصر… لم أولد في يومٍ واحد، ولم أرتدِ زيًّا واحدًا، لأنني كنتُ العالمَ كلَّه قبل أن يُخترَع اسمُ العالم.” وفي حضرة ذلك المتحف الذي يجمع الزمان في حجر، نهتف في صوت واحد: كلّنا مصر.


***