اليوم العالمي للقانون… العدلُ ماءُ الحياة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 11:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

العدل. ما سبق ليس "كلمة"، بل جملةٌ مفيدة مكتملة الأركان؛ لأنها تُلخص فلسفة الحياة. في أسمائه الحسنى، تفرّد الله باسم "العدل"، لا “العادل” ولا “العدول”، على نسق بقية الأسماء التي جاءت على وزن: فاعل- فعول- فعيل- فعّال- مِفعال. فقط "العدل"، "السلام"، "الحق" وردت على صورة "الجوهر" لا "الصفة"؛ لكي تبثُّ لنا رسالة بأن تلك الأسماء بالذات كياناتٌ ربوبية عُليا ومطلقة، لا مجرد صفاتٍ نسبية. وكأنما أراد اللهُ أن يعلّمنا أنّ "العدل" ليس فعلًا يُمارَس، بل جوهرٌ يُستَمدّ منه كل فعل، ومِظلّة إلهية أسدلها الُله على الكون كي يحيا في محبة وسلام. ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم مُحرّمًا، فلا تظالموا”. وهذا شيء مدهش ومخيف، أن يُحرِّم الخالقُ أمرًا على نفسه قبل أن يحرّمه على عباده، ليعلّمهم هولَ الظلم وحتمية العدل، باعتباره ميثاقًا سماويًا حاسمًا، لا مفاوضة فيه. لهذا اجتهد البشرُ في صكِّ "القانون"، الذي يحمي "العدل" ويُزيح شبحَ "الظلم" الأسود من مشهد البشرية. كان هذا ملخص كلمتي التي ألقيتُها بالأمس في الاحتفال بـ"اليوم العالمي للقانون" لذي أقامته "المؤسسة العربية للسلام والتنمية"، بالشراكة مع "المحكمة العربية للتحكيم ومجلس الوحدة الاقتصادية”.
لهذا أتقدّم بجزيل الاحترام لمعالي المستشار "كمال خليفة عبد الرحمن"، رئيس مجلس أمناء "المؤسسة العربية للسلام والتنمية" الذي جعل من يوم ١٣ سبتمبر طقسًا سنويا بهيجا يجمعنا فيه على شرف رجالات القانون والعدالة من مصر ومختلف دول الوطن العربي، لنتذكر فيه أن "العدل" هو مظلة الرحمة التي تحقق السلام للبشر، وأن "القانون" هو الصخرة التي تحمي كرامة الإنسان وتعلو به إلى المكانة الراقية التي رسمها الله له.
وحين ننطق كلمةَ "القانون" لابد أن تُذكر "مصرَ"؛ لأنها اليدُ الأولى التي كتبت "الضمير" في دستور التاريخ، وصكّت أبجديات القانون في غبش الحضارات. ويظلُّ "قانونُ ماعت" أعرقَ وأرقى ما ابتكر الإنسانُ من قيم أخلاقية؛ لا تنظّمُ أسسَ العَيش الكريم بين الناس وحسب، بل تُهذِّب الإنسانَ وتجعل منه كائنًا راقيًا مُستحقًا للحياة. تصوّروا قانونًا يُجرِّمُ التسبّب في دموع إنسان! تصوّروا قانونًا يُجرّمُ تعذيبَ الحيوان، بل يُجرّم تعذيب النبات بحرمانه من الماء؟! وحده القانونُ المصري الذي استهلَّ موادَّه بالقيم العليا للأخلاق: "لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تظلم….”، ثم جاءت مستوياتُ التهذيب الأرقى في العطاء: “كنتُ عينًا للأعمى، كنتُ ساقًا للكسيح، كنتُ يدًا للمشلول، كنتُ أبًا لليتيم...” بل كان القانونُ المصري القديم أولَ من حضَّ على النظافة: “لم ألوّثْ مياهَ النهر"، وغير ذلك من فرائد الأخلاق والتحضُّر وردت في بنود قانون "ماعت" المصري التي بلغ عددُها ٨٤ بندًا؛ نصفُها اعترافاتٌ ثبوتية: “كنتُ - فعلتُ"، ونصفُها الآخر ٤٢ اعترافًا إنكاريًّا: “لم أكن، لم أفعل".
كانت الكلمات التي أُلقيت في حفل أمس الأول بمثابة مرايا نُطلّ منها على أنفسنا. تحدث البعض عن تحديات الإرهاب، وعن الدم المسفوك في غزة وفي بقاع أخرى، وكيف يجب أن يتحول الألم إلى قضية أمام محكمة التاريخ. وأتذكّر هنا كلمة المستشار "أحمد الزند" العام الماضي في نفس هذا اليوم إذ قال إن الكيان الصهيوني هو "هولاكو العصر" الذي يقتل المدنيين ويتفنن في ترويع الأطفال والنساء بشهيّة جائعة للدماء، وبدعم كامل من أمريكا التي تمدهم بالماء والسلاح والتكنولوجيا، ولا أحد يحاسبهم!
نحتفل كل عام بعيد القانون، لا كتقليدٍ دولي فحسب، بل كعهدٍ وطنيّ يعيدنا إلى جذورنا ويعيدنا إلى روح الله “العدل” الذي حرّم الظلمَ على قُدسه، وعلينا نحن البشر لكي تتنفس ضمائرنا. فالعدل، ليس مادةً في كتاب القانون، بل هواءٌ في صدور البشر، وماءٌ في حياتهم.
ولا يمكن أن أكتب مقالا عن "القانون" دون أن أتذكر جدي العظيم المستشار "محمود عاصم" مؤسس مجلة "دنيا القانون"، وصاحب كتاب "أشهر قضايا التاريخ… لأعلام القانون في الشرق والغرب" الصادر عام ١٩٦٦، وكتاب "المرافعات في أشهر القضايا الجنائية" وغيرهما من الكتب الخوالد. في طفولتي، كنتُ أتأملُ روبَه الأسودَ المهيب، مُزيّنًا بأوسمة الشرف، مُعلّقًا على عمود الشماعة في غرفة مكتبه في حي باب اللوق، فتغمرُني حالٌ من الشعور بالإجلال والمهابة، إذ أوقن أن رجال القانون مجبولون من طينة نقية. فهم حملةُ لواء "الحق"؛ واللهُ هو "الحق"، وهم سدنة باب "العدل"؛ واللهُ تعالى هو "العدل". رحم الله جدي الغالي، وبارك في كل قاض عادل ينصرُ المظلومَ ويردُّ الظالمَ عن ظلمه. وتحية احترام للقانون في عيده.

***