وجهُ مصرَ في اليونسكو


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 10:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

(يوم الاثنين ٦ أكتوبر، حدث أمرٌ في غاية الجمال. كنا في "ورشة الزيتون الإبداعية"، نناقشُ رواية "زهرة النار" للأديب "محمد سلماوي". وأثناء المناقشة أُعلن فوز الدكتور "خالد العناني"، بمقعد المدير العام لمنظمة "اليونسكو". وفجأة ضجّت القاعة بالتصفيق وتعالت صيحاتُ الفرح من الأدباء الحضور، وكأنه نصرٌ جديد في يوم نصر أكتوبر. وجاءت مكالمة من باريس للأستاذ "سلماوي"، وفتح الإسبيكر لنسمع تصفيق القاعة الباريسية متزامنًا مع تصفيقنا القاهري. وفتحت العزيزة “فاطمة ناعوت” بثًّا مباشرًا لتوثيق اللحظة. ألف مبروك لمصر.)
الكلمات المشرقة السابقة للشاعر والمؤرخ "شعبان يوسف" مدير الورشة الأدبية، كتبها ليقبض على لحظة بهيّة تُدوّن في دفتر ذكريات مصر الحلوة التي تُحفر في الذاكرة عصيّةً على النسيان والخفوت.
وكأنّ القدرَ شاء أن يُهدي مصرَ في ٦ أكتوبر رايَتيْ مجد؛ رايةَ النصر رفعها جنودُنا على ضفة القناة عام ١٩٧٣، وراية الثقافة التي اعتلت صرح اليونسكو بفوز البروفيسور "خالد العناني”، كأول مصري وعربي يعتلي هذا المقعد الشاهق. لم يكن إعلانُ النصر الثقافي صدفةً في حضن ذكرى النصر العسكري؛ بل هو سياق طبيعي لوطنٍ يكتب مجدَه بمداد العلماء ودماء الشهداء.
أكتوبر، الذي أخبرَ العالمَ أن "المصريَّ" حين يُعقد العزمَ يفتح المعابرَ المستحيلة، يثبت من جديد أن الإرادة ذاتها التي شقت قناة السويس بالعرق، وعبرت حائط بارليف بالعبقرية، قادرةٌ على عبور حواجز المعرفة والعلم لتتسلّم القيادةَ الثقافية في أهم منظمة دولية تُعنى بذاكرة العالم. تزامنٌ مدهشٌ أن ينتخبَ القدرُ يومًا من بين ٣٦٥ يومٍ، ليتواكبَ حدثان مصريان عظيمان يفصل بينهما ٥٢ عامًا! ولكن أيُّ دهشة وأيُّ عجب! فالأممُ العريقةُ لا تُسطّر أمجادَها في فصل واحد من كتاب الحياة، بل في فصول متتابعة، يتجاور فيها سيفُ الحقِّ مع قلم المعرفة، وتتكامل فيها معركة شرف الأرض مع معركة الوعي. أكتوبر الذي رفع راية الوطن، يعود بعد نصف قرن ليُهدي مصر راية جديدة، ترفرف هذه المرة فوق صرح الثقافة العالمي، إيذانًا بأن مصر، التي كانت "رأس حربة" الحضارات، قادرة على أن تقود الحاضر كما قادت الماضي.
البروفيسور "خالد العناني"، ليس وحسب اسمًا أكاديميًّا مرموقًا، ولا وزير سياحة وآثار مدهشًا، ولا واجهة مصرية ثقافية ساطعة، بل هو أيضًا رجل علم جليل خبر تفاصيل التراث المصري والعالمي، وعاش مع الجداريات والبرديات التي حكت حكايا الحضارات. هو الذي أدار ملفات ثقيلة بحجم المتاحف الكبرى، وملف استرداد الآثار المنهوبة، وملف الترويج لمصر سياحيًا وثقافيًا في أشد لحظات العالم عُسرًا، بعد جائحة كورونا. كان، ومازال، صوتًا للآثار التي تنطق بلسان مصر القديمة، وحارسًا للأبواب المفتوحة على العالم عبر السياحة والأثر. قاد مشروعات كبرى أعادت لمصر بريقها العالمي: من نقل المومياوات الملكية في موكب أسطوري أبهر الكوكب، إلى افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية، إلى ترميم كنوز أبو سمبل والأقصر وسقارة. وفي كل ذلك كان يحمل اسمَ مصرَ على هامته، لا باعتبارها وطنًا جغرافيًّا، بل بوصفها رسالةً إنسانية وحضارية للعالم كله.
وأما "اليونسكو"، فهي الضميرُ الثقافي والإنساني والذاكرة الجمعية للعالم، والمحراب الذي يُصان فيه التراث البشري، والمائدة التي يجتمع حولها أبناء الأرض كي يكتبوا فصول المعرفة والسلام. هي المنظمة التي اضطلعت بمهمة الدفاع عن التراث المادي واللامادي للإنسانية، والنهوض بالتعليم، وحماية الثقافة، وتعزيز الحوار بين الشعوب. عبر عقودها المتعاقبة، ظلّت "اليونسكو" دِرعًا يحرس الجمال والمعرفة والذاكرة من طوفان الحرب والجهل والتهميش. واليومَ، أن يجلس "مصريٌّ" على مقعدها الأعلى، فهذا يعني أن الحضارة التي قدّمت للعالم أول أبجدية وأول جامعة وأول معبد وأول مسرح، تعود لتتسلم زمام القيادة. فمصر لا تدخل إلى اليونسكو كضيف، بل كأمٍّ تعود إلى أبنائها.
والشاهدُ أن الدكتور "خالد العناني" ليس غريبًا عن اليونسكو؛ فقد تعاون معها في مشاريع عديدة تخص التراثَ المصري، وكان ممثلًا قويًّا لمصر في المحافل الدولية. خبرته الأكاديمية كأستاذ متخصص في "علم المصريات" Egyptology، تجعله صوتًا يربط الماضي بالحاضر. فاليونسكو، بوصفها سرديةً كبرى للإنسانية، تحتاج إلى رجل يعرف قيمة "الرمز" كما يعرف قيمة "الحجر"، ويدرك أن الذاكرة الثقافية ليست ترفًا، بل هي شرطٌ لوجود الأمم وخلود الحضارات.
اليومَ، والعالمُ يمورُ بحروب تمحو الأثرَ، وتغيُّر مناخي يهدد التراث الطبيعي، فإن اليونسكو بحاجة إلى قائد يملك "رؤية" تجمع بين المعرفة الأكاديمية والخبرة التنفيذية. و"خالد العناني" هو "الرقمُ الصعب" في تلك المعادلة العصية. هو الوزير الذي غادر مكتبه ونزل إلى المواقع، وتابع الحفائر، وافتتح المتاحف، وحوّل الأزمات إلى جسور إبداع. مبروك لليونسكو اسم مصر يشرقُ في واجهتها، كما أشرقتِ الشمسُ فوق معابدها.


***