أكتوبر … فصلُ الأمجاد المصرية
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 10:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
أكتوبر ليس شهرًا، بل فصلُ الانتصارات الكبرى التي تحصدها مصر عبر الزمان. من أكتوبر ١٩٧٣ يوم عبرنا القناةَ ليستعيدَ وجهُ مصر إشراقَه، إلى أكتوبر ٢٠١٤ حين بدأنا حفر قناة السويس الجديدة لنصنع عبورًا آخر نحو الغد، إلى أكتوبر ١٩٨٨ حين افتُتحت دار الأوبرا الجديدة ليعود صوتُ مصر الفني والثقافي بعد عقود من الصمت. وفي أكتوبر ٢٠٢٥ يواصل التاريخُ موسيقاه، فيُسجِّل على أوتار الشهر ثلاثية النصر الجديدة: البروفيسور "خالد العناني" رئيسًا لمنظمة اليونسكو كأول مصري وعربي يعتلي عرش الثقافة العالمية، واحتضان مصر "قمة شرم الشيخ" لتجمع قادة العالم تحت راية السلام، ثم تتويج هذا الموسم بفوز مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة للفترة ٢٠٢٦٢٠٢٨، تأكيدًا لمكانتها الدولية الرفيعة وثقة العالم في رؤيتها الإنسانية. أكتوبر المصري لا يُقاس بالأيام، بل بالأثر. هو الشهر الذي تتحوّل فيه الجغرافيا إلى معنى، والزمنُ إلى ذاكرة وطنية متجدّدة. كلُّ أكتوبر يحمل في طيّاته وعدًا جديدًا بأن مصر لم تكن يومًا شاهدة على التاريخ، بل كاتبته، وصانعة فصوله المضيئة. ولهذا فتعبير "انتصارات أكتوبر" ليس مجازيًّا، بل نسيجٌ من خيوط أمجادنا على الأصعدة العسكرية والسياسية والثقافية والحقوقية.
من عبور القناة إلى عبور المنصّات العالمية، لم تتوقّف مصر عن إعادة تعريف ذاتها كصوتٍ للحقّ. فنصر أكتوبر لم يكن معركة عسكرية وحسب، بل هو إعلانٌ عن الإرادة التي تهزم المستحيل. ومنذئذ، لم تَعُد مصر تُقاتل بالسلاح، بل بالعلم والثقافة والبناء والسلام. حين تشقُّ مصرُ قناةً جديدة، أو تُضيء دورَ أوبرا، أو تترأّسَ اليونسكو، أو تُنهي حربَ إبادة، أو تحتلَّ مقعدًا في مجلس حقوقي عالمي، فذلك امتداد للعبور من الظلام إلى النور، من العزلة إلى الحضور.
حين نرى مصرَ تمنحنا هذي الانتصارات المتوالية، لا نرى فقط عاصمةً تقود ملفاتٍ مهمة، بل قلبًا ينبض بالأمجاد. في رئاسة اليونيسكو، تقول مصرُ إن الحضارة ليست ماضيًا مهجورًا بل مشعلُ نور لا يخبو في حاضر العالم، وإنها جاهزةٌ لتكون صوتًا عالميًا في الثقافة والتعليم والبحث العلمي. وفي قمة السلام الشرقي، تقول مصرُ إنها ليست متفرجًا على أزمة غزة، بل صانعةٌ لمشهد السلام، وفي فوزها بعضوية مجلس حقوق الإنسان، تقول إن التزامها ليس شكليًا، بل جادٌّ في الحفاظ على كرامة الإنسان. هذي الانتصارات تُدلّ على ثقة العالم في مصر لا كدولة إقليمية فحسب، بل كفاعل دولي يُحسب له حساب. في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، حصدت مصر ١٧٣ صوتًا لتفوز بعضوية مجلس حقوق الإنسان، لأن العالم أدرك أن القاهرة التي تبني الجسور وتخفض التصعيد وتحقن الدماء وتستضيف مؤتمرات السلام سعيًا لاسترداد شعب فلسطين أرضَه وحقَّه في الحياة، هي ذاتها التي تسعى إلى صون كرامة الإنسان داخل حدودها وخارجها.
ونحن نفخر بعضويتنا في مجلس حقوق الإنسان، ندرك أنها ليست جائزة بل مهمة شاقة. أن نجعل من القاعة منصةً لشعب فلسطين، لحقوق الإنسان في مصر، للمرأة، للطفل، للشباب، لذوي الهمم، لحقوق العمال، لحرية التعبير الرفيع، للأقليات الدينية، ولكل من يُنتهك حقُّه على يد ظالم. والشاهدُ أن الرئيس "عبد الفتاح السيسي"، منذ تولّيه الحكم، يسعى لترسيخ هذا المسار: من الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان٢٠٢١، إلى التقارير التنفيذية التي تابعت تنفيذها، وصولًا إلى التوجيه الرئاسي في سبتمبر ٢٠٢٥، بإعداد استراتيجية جديدة بعد انتهاء الأولى. تلك خطوات تعكس إيمانَ الدولة بأن "احترام الإنسان" ليس شعارًا انتخابيًا، بل قاعدةٌ "حتمية" لبناء وطنٍ قويّ من الداخل، يُحاور العالم بندّيةٍ وثقة.
وهكذا يبرهن "أكتوبر" من جديد أن مصر، كلما مرّت بأزماتها، خرجت منها أكثر إشراقًا وقوة. في كل عقدٍ من الزمان، لها نصرٌ جديد يضاف إلى سجلّ أمجادها. أكتوبر في مصر ليس تذكارًا نحتفل به، بل وعدٌ نُجدده على مدى الأعوام. فكلّ عبورٍ جديد، على تنوّع مساراته؛ يحمل الروحَ ذاتها: روح المقاتل المثقف الذي ينتصر للحق والخير والجمال والعدل، روح الفنان الذي يُجبر النورَ أن يخترقَ ظلال لوحته لتضيء، روح الموسيقيّ الذي ينتقي مواضعَ النغم والسكوت، روح الشاعر الذي يوازن بين الحركة والسكون.
تقول مصرُ: أنا الحاضرةُ التي لا تغيب. من ميادين الحرب إلى قاعات السلام، من ضفاف القناة إلى قاعات الأوبرا، من عقل العالم في اليونسكو إلى ضميره في مجلس حقوق الإنسان، تظلّ مصرُ توقّع اسمَها بذات الحبر الذي كتبت به مجد الأول قبل آلاف السنين. مصر تغني بصوت ثابت، لا صخب فيه، لتثبت أن الحضور الأخلاقي والثقافي والدبلوماسي لا يُصنع بالضجيج، بل بالعقول التي تبحث عن الأثر.
***