أندهشُ … حين لا أندهشُ


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8542 - 2025 / 11 / 30 - 12:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

يندهشُ أصدقائي من دهشتي أمام أمور غير مُدهشةٍ، أو بالأحرى لم تعد مدهشةً من فرط تكرارها. لكني أندهش من المدهشات مهما تكررت. بل أندهشَ من نفسي، إن مرَّ أمامي أمرٌ مُدهشٌ ولم أندهش، ربما بسبب ضغوط الحياة أو التعب، فأعود وأعتذرُ لما سمحتُ له أن يمرَّ دون دهشة. مثلا كلما نبتت زهرةٌ في شرفتي، أقفُ أمامها مذهولة! من أين خرجت! ومرةً كنتُ متعبةً فلم أعبأ، ومرّ اليومُ كئيبًا، ثم تذكرتُ الزهرة فركضتُ إليها واعتذرتُ لها. أندهشُ كلَّ يومٍ من القمر يضيء وهو معتم، ومن قوس قزح يعبر السماء كسهم مارق لا يخلط ألوانه. وأعلم أن قارئي يدركُ أن الأمر بعيدٌ عن تحصيل العلم. فقد درستُ الأحياء والفيزياء والفلك، لكنه إكبارٌ لمعجزات يهديها اللهُ لنا كل يومٍ، حتى تمتلئ عيونُنا بالجمال.
الإنجليز يرون الدهشة ضد الأرستقراطية. "الأرستقراطيُّ لا يبدي دهشتَه." وأنا، وفق هذا التعريف، أبعدُ الناس عن الارستقراطية. أندهشُ لأمور لا تُدهش الأطفال. أندهشُ من القلم يخطَّ شيئًا؛ فيحوّل شيئًا غامضًا في رأس الكاتب، اسمه "فكرة"، إلى رموزٍ، فيعثرُ شخصٌ آخر على الوعاء، المسمى "ورقة"، وينظر في تلك الرموز، المسماة حروفًا، فيرى ما في رأس الشخص الأول! معجزةٌ مدهشة عابرةٌ للزمان. فحين تفتح كتابًا وتقرأ مسرحية ل"شكسبير"، فأنت تتلصّص على عقل رجل مات منذ خمسة قرون! نفس المعجزة التي تجعلكم ترون عقلي وأنتم تقرأون الجريدة الآن!
لا أفقد الدهشةَ مهما تكرر حدوثُ المدهشات، ليس لتعطُّل التراكم المعرفي لديّ، بل تشبّثًا بخيط الفرح بالحياة. اِحسبْ كم سأفقدُ من بهجة لو توقفتُ عن الدهشة؟! مثلا شغّل المروحة في ليلة حارّة، وتخيل نفسك خليفةً عباسيًّا تحيطُ بك الحسان "يُمروحن" عليك بريش النعام. تخيّلْ هذا، واندهشْ، وافرحْ.
ومثلما تُدهشني معجزاتٌ مبهجةٌ مثل القلم والقمر والطمي الأسود ينشقُّ عن زهرة ملونة، أو دودة تتكور على نفسها داخل سجن الحرير، ثم تخرجُ فراشةً تطير...، توجعني مُدهشةُ الإنسان الذي اعتمر الأرضَ ملايين السنين، ولم ينجح بعد في الكفِّ عن القتل والكذب والظلم والسرقة والاغتصاب! كأن الزمانَ لا يمرُّ، ولم نتعلم أن الجمال وحده سيصلح العالم! كم مليون سنة يحتاج الإنسانُ ليغدو فاضلاً؟!
أقولُ لأصدقائي الذين يسخرون مني إنني لو توقفتُ عن الدهشة من الجمال، سوف أعتاده فلا أفرح، وإذا توقفتُ عن الدهشة من قبح الخطايا، سوف تمرُّ دون رفض، ومَن يدري ربما يأتي يومٌ وأرتكبُها.
الدهشةُ هي دليلي أنني أحيا وأتفاعل مع الوجود. تدهشني ذبابةٌ ثابتة في هواء كابينة قطار يجري، لا تصطدم بالجدار! تدهشني النملةُ تسير في خمس ثوان ما يوازي طول جسدها ألف مرة!، كأنما إنسان يمشي ميلا في لحظات! ويجيء العلمُ، الذي أنفقتُ عمري في تحصيله، ليفسدَ جميعَ متعي. درسُ الكيمياء والفيزياء والأحياء يدمر دهشاتي. العلمُ يخبرني أن القمر الجميل، محضُ كوكب صخريّ مظلم يسرق من الشمس نورها فيضيء. تبًّا!
الدهشةُ تعني السؤالَ، والسؤالُ يجيب عنه العلم. وتبقى أمورٌ لم يحلّها العلم، ومن ثم توجّب اشتقاقُ لون جديد من العلوم الإنسانية هو الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة. يقول "كارل ياسبرز”: “كل إجابة تصبح سؤالاً جديدًا.” وتلك حكمةُ الله تعالى لكي يذكرنا أن العلم سيظلُّ قاصرًا ليبقى العالَمُ لغزًا مُحيّرًا، ونظل نندهش فنثبت أننا بشر. ولهذا يدعونا "إيدموند هوسرل" للرجوع إلى الذات والوعي النقي لتحطيم المعارف الجاهزة التي تعوّق مشارفة الحقيقة. فعلى الإنسان أن ينشئ فلسفةً خاصة، قائمة على حدوسه الشخصية. من أجل ذلك رفض "فيثاغورس" أن يُدعى "حكيما" لأن الحكمة تعني امتلاك الحقيقة. ومَن يمتلكُها؟ وفضّل عليها كلمة "فيلسوف"، وهو "محبُّ الحكمة"، لا مالكها. هذا التواضع المعرفيّ، والتوق الدائم إلى التعلّم، هو الذي سيولّد فيما بعد منزع الشك المنهجيّ الذي سيؤسسه "ديكارت" في القرن السابع عشر. لذلك تبقى الأسئلةُ أهم من الإجابات. فدهشة نيوتن من سقوط التفاحة بدلا من طيرانها في الجو بعدما تحرّرت من غصنها، خلق سؤالا. ثم نظرية. فهل كان "نيوتن" حين اندهش فيلسوفًا أم عالًما أم شاعرًا أم طفلاً؟ إجابتي أنه إنسانٌ تحرّر من استعمار اليقين والمُسلّمات. من هنا نفهم المنطق التوليديّ للسؤال السقراطي الذي يبدأ بسؤال بسيط ثم يتدرج الحوار ليولّد أسئلةً إشكالية كبرى أحرجت رجال الدولة وحطمت اعتقادهم الدوجمائي بامتلاك اليقين؛ فقتلوا "سقراط" بالسمّ. جميلٌ أن نتحرر من الوثوقية والجاهزية والبداهة، ونستسلم للذة الدهشة. فلا شيء بديهيًّا فوق الأرض. كل شيء يصلح أن يكون محلّ سؤال ودهشة. حتى قبسة الهواء التي تدخل رئتي الآن لكي أحيا لدقيقة قادمة.

***