لعبةُ الحَبَّار
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 10:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
تناول "هايدجر" حَبّة فشار من صحني فيما نشاهد مسلسل "لعبة الحبّار" وقال: (ألم أخبركِ بأن الإنسانَ ليس إلا كائنًا رُمي فجأةً على مسرح الكون، بلا اختيار، ثم أُضيئت الأنوار، وقيل له: “مَثّل!”. لكن النصَّ لم يُكتب له، والوقتُ ينفلت من بين يديه، والنهايةُ هي الموت.)؟
لا يمكن النظرُ إلى المسلسل الكوري Squid Game في أجزائه الثلاثة، إلا بوصفه نصًّا فلسفيًا مقنَّعًا في صورة دراما مشوّقة، ومخيفة. فما يبدو كمنافسة دموية على المال، يتحوّل، عند التمعّن، إلى مرايا عاكسة لأعمق أسئلة الوجود: معنى الحرية، حدود الاختيار، مفهوم الرضا، الأثرة والإيثار، التضحية والغدر، العلاقة الملتبسة بين الإنسان والسُلطة، وبين الحياة والموت.
الجزء الأول مجازٌ قاتم لعبودية الجسد في زمن الرأسمالية المتوحشة. اللاعبون بشرٌ سحقتهم عجلةُ الديون، فلم تبق إلا أجسادُهم يرهنونها في مقامرة يائسة. الجسد هو "العملة الأخيرة": رأس مال بائس يُلقى في ماكينة اقتصاد متوحشة. ابتسم "هايدجر"، وقال: (انزلق الإنسانُ إلى حضيض الشيئية. لم يعد كائنًا يسائِل وجودَه، بل غرضًا مُلقًى على طاولة لعب. شيءٌ يُقاس بمدى احتماله للألم وقدرته على الصمود. الوجود إذن يتفتت: من "كينونة تبحث عن المعنى" إلى "سلعة" في سوقٍ يُقاس فيه الإنسانُ بعدد أنفاسه قبل أن يسقط. إنها لحظة انكشاف رهيبة: حين يُختزل الكائن الحي إلى مجرد جسد، ويُختزل الجسد إلى رقم، ويُختزل الرقم إلى احتمالٍ في معادلة ربح وخسارة. وكأن الحياة، في نظر الرأسمالية، لم تعد سوى خوارزمية باردة: جسد+ديون =وقود للعبة.)
ألعاب الطفولة: شد الحبل، الأرجوحة، الاستغماية، البِلي، الحلوى…. تتحوّل إلى ساحاتٍ للموت، وكأنها إعادة تدوير لذاكرة الطفولة في طاحونة السوق القاسية. مملكة البراءة تتحوّل إلى أداة ضبطٍ وقتل. وكأنها استعارةٌ عن النظام الرأسمالي الذي يلتهم أحلى ما في الإنسان من ذكريات.
الجزء الثاني يُجاوز المدى ويتوغّل أكثر في "سؤال الحرية”. فالمتسابقون يوقّعون على عقد المشاركة "طواعية". لكن أيُّ طواعية تلك حين يكون البديلُ هو الجوع والذل والسجن وموت الأبناء لعسر العلاج؟ إنها نسخة معاصرة من "عقد روسو الاجتماعي" وقد تحوّل إلى فخٍّ. الحرية وهمٌ، والاختيار هلاك.
هنا يلتقطُ "سارتر" طرف الخيط الوجودي ويقول بأسى: (اللاعبون محكومون بأن يختاروا، حتى وإن كان الاختيارُ بين موت سريع برصاصة في الرأس، أو ذُلّ الموت البطيء في طاحونة الديون. الحرية، كما صوّرها المسلسل، محض قناع يُخفي الوجه البشع للقهر.)
في الجزء الثالث، يُرفع الغطاءُ عن المحرّك الخفيّ للعبة الدموية: "النخبة الثرية" التي تنظّم المسرح. المليارديرات الذين يتسلّون بموت المعدمين. هنا يقوم "ألبير كامو" إلى مكتبتي ويلتقط مسرحية "كاليجولا" ويقهقه قائلا: (ألم أقل لكم إن السلطة، حين يبتلعها فراغُ المعنى، تتحول إلى مسرح عبثي تُباع فيه الحياة وتُستهلك من فرط الملل؟)
الموتُ في "لعبة الحبّار" ليس حدثًا عابرًا، بل أداةٌ فلسفية لكشف ما يختبئ تحت القشرة. في مواجهة الموت، يظهر الإنسانُ على حقيقته: خيانة، تضحية، حب، أنانية، صدق، نذالة، رقيٌّ، غدر. المسلسل يذكّرنا العمل بتجربة "دوستويفسكي" في "الإخوة كارامازوف”: لحظةُ الموت تُجرِّدُ الإنسانَ من الأقنعة.
لكن المسلسل يزيد على ذلك شيئًا: يجعل الموتَ نفسه سلعة. فكما يُباع الخبزُ والنفط، صار الموتُ عَرَضًا يُباع ويُشترى. تلك أقصى درجات التشييء: أن يتحوّل الفناءُ إلى فرجة وتسلية.
الرسالة التي تخرج من الأجزاء الثلاثة ليست نقدًا للرأسمالية ولا هجاءً للسلطة؛ بل محاولةٌ لإعادة طرح السؤال الجذري: ما الإنسان؟ هل هو حرٌّ أم مُسيَّر؟ هل يملك إرادة أم أنه نتاج منظومة سحقته وأوهمته بالاختيار؟ "لعبة الحبار"، في جوهرها، تصرخ بما قاله "نيتشه”: "الإنسان جسرٌ، لا غاية.” لكنه ليس جسرًا للارتقاء إلى "الإنسان الأعلى"؛ بل جسرٌ تعبر عليها قوى أعظم: المال، السلطة، العبث. لكن في لحظةٍ ما، يطلّ سؤالٌ آخر: هل يمكن للإنسان أن يقول “لا”؟ أن يرفض اللعبة كلها؟ ربما تكون الإجابة في النهاية سلبية، لكن المسلسل ينجح في طرح السؤال على الأقل. وفي الفلسفة، كما نعلم، طرحُ السؤال أهمُّ من تقديم الإجابة.
لكنَّ الدهاءَ الأكبر من صنّاع الدراما الكورية يظهر حين نكتشف أننا، نحن المشاهدين، لسنا أبرياء. فنحن نتفرّج على "الموت" ونتسلّى؛ مثلنا مثل أولئك الأثرياء الجالسين على الأرائك المخملية. المسلسل يضعنا في الموقف الأخلاقي ذاته: نتلذذ بالمأساة ونحن نعرف أنها خيال. لكن ألا نفعل الشيء ذاته في حياتنا الواقعية حين نستهلك أخبار الحروب والكوارث دون أن نحرّك ساكنًا؟! هنا تغدو "لعبة الحبار" مرآة لا نحتمل النظر إليها طويلًا، لأننا شركاء في اللعبة، حتى ولو كنا جالسين خلف الشاشات.
***