-زهرة النار-… الحلمُ يخفقُ في الرماد


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 12:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

في روايته الأحدث "زهرة النار" يهبُنا "محمد سلماوي" رموزًا واستعاراتٍ عديدة، لا تكتفي بجمالها الفني، بل تتنفسُ في جوهرنا وتخزُ أرواحَنا لتعلن عن نفسها؛ بحيث يبدأ كلُّ قارئ في استعراض شريط حياته ليستخلص عددًا من "زهور النار" التي انبعثت من مواتِها بعد إحراقها وصهرها. Protea Repens زهرةٌ لونها بين الوردي والأبيض والأحمر تنبتُ في جنوب أفريقيا، تنكمش تحت الجفاف وتبدو ميتة، حتى إذا مسّتها النارُ انتفضت وأزهرت في أعجوبة ربانية لا تشبه إلا نفسها.
سرّب لنا الأديبُ الكبير، وعلى نحو خاطف، ذلك الرمزَ الذي لا يكتفي بالدهشة النباتية، بل يفتح أبواب التأمل في معنى البقاء، ومعنى الانتفاض، ومعنى أن تكون النارُ أو الموتُ سبيلًا للحياة.
الحُبُّ في الرواية هو تلك النار: قبسٌ من لهيبٍ مُستّعِر، يعيدُ إلى "عالية"/الزهرة أنفاسَها بعدما أطفأتها الوحدةُ والترمّل والفقد. لكن ذلك اللهيب الذي أيقظ مواتَها وأورقَ ذبولَها، لم يستطع أن يذيب صخورَ مجتمع لا يعبأ بالزهور ولا يحزنه ذبولها. هنا المفارقة التي نسجها "سلماوي" بمهارة: أن السياسة، بكل ما فيها من مطاردات وصراعات وتوازنات ومصالح وقسوة، قد تسمح بتكوين حزب في زمن يرفضُ الأحزاب، بينما المجتمع، بما فيه من أعرافٍ قاسية وأحكام متوارثة، يحاصرُ الحبَّ ويقتلُ القلوبَ ويجهض حلمَ زواج بسيط بين عاشقين فرّقت بينهما الطبقاتُ وفروق الزمن. السياسة، على عُسر دروبها، لها أبوابٌ يمكن طرقُها، أما الأعرافُ فهي جدرٌ صمّاء لا نوافذ فيها ولا تسمح بمرور الشمس.
لكن "سلماوي" لا يتركُنا عند دهشة المفارقة، بل يدفعنا إلى ما هو أعمق: طبيعة الحلم المؤجَّل. حُلم الزهور بالحياة. الحلمُ المؤجل ليس جثةً تُوارَى في الثرى، بل بذرةٌ تنام في عتمة النسيان حتى يحين موسمُ إثمارها. بل قد يكون الحلمُ أكثر حياةً وسطوعًا وهو مؤجَّل؛ لأنه يظل يمدّنا بوميضٍ سرّي، يبقينا في حالة انتظار ورجاء وترقّب وشغف.
العاشقان "خالد" و"عالية" لم يتوّج الزواجُ حكايتَهما، لكنهما أورثانا سؤالًا مزلزلًا:: هل قيمةُ الحلم في تحقيقه، أم في بقاء جذوته مشتعلة في رماد الوجدان؟
زهرة النار إذن ليست زهرة العاشقين وحدهما، بل هي رمزٌ لكلّ حلمٍ مؤجَّل في حياة كلّ إنسان منّا. هي نحن الذين ننكمش ونذوي تحت رماد الأعراف الثقيلة التي لا تستندُ إلى قانون أو منطق أو شرع، ثم تمسّنا نارُ فَقدٍ أو نارُ حبٍّ أو نارُ ثورةٍ، فننتفضُ، وتتنفس قلوبُنا تطلبُ الحياة. قد نحترقُ، وقد نُبعثُ، لكننا لا نعود كما كنا. يُذكِّرُنا "سلماوي" بأن الذبول قد يكون طريقًا للصحو، وأن الموات الظاهر قد يكون خطوةً في رحلة تحوّل الجذور نحو بعث جديد.
ولعل أجمل ما في الرواية أنها لا تترك القارئ يلهث وراء سؤال: "لماذا لم يتزوّج العاشقان؟”، بل تضعه أمام سؤالٍ أصعب: لماذا تخيفُنا أحلامُ القلوب أكثر مما تخيفنا معاركُ السياسة؟ لماذا الأعرافُ أقوى من القوانين؟ السياسة تتبدّل بنصوصٍ وتشريعات، لكن المجتمع لا يتغيّر إلا إذا اهتزّت جذوره العميقة، وإذا اقتنع أن الحب ليس جريمة. المجتمع ذاته جثمان "زهرة نار" تنتظر نارَ الصحو والوعي.
لغة الرواية بسيطة سلسلة، لكنها تستدرجك إلى عوالم الرموز والدلالات والإسقاطات حتى تخطفُك في شَرَك التأمل. ليس تأمل أحداث الرواية وصروف القدر مع الحبيبين “عالية وخالد” والصديق السياسي والأحزاب وهموم الوطن، بل تأمل حياتك الخاصة للوقوف على زهورك الخامدة التي تنتظر كل يوم لهيبَ إيقاظها. في كل صفحة من صفحات الرواية يذكّرك "سلماوي" أن الأحلام المؤجلة أكثرُ خصوبة من الأحلام المتحققة. الحلم حين يتحقق ينطفئ بريقه، أما حين يُؤجَّل يظلّ يضيء ليلَ الروح، يوقظ أسئلةً، ويرسم احتمالاتٍ، ويمنحك عزاءً بأن الغدَ ممكن.
أخفق العاشقان "خالد" و"عالية" في تتويج قصتهما، وألقيا بزهورهما إلى صقيع الفراق بعدما أشرقت بنار الحب. لكن ذلك الإخفاق تحوّل إلى نصٍّ، والنصُّ صار زهرة نار جديدة ألقاها "سلماوي" في وجوهنا، لُتسائلنا: أيّهما أعمقُ أثرًا: حلمٌ تحقّق سريعًا وانطفأ، أم حلمٌ مؤجَّل يظلّ يتوهج في أعماق أرواحنا، يُخصٍّب وعيَنا، ويزرع في مداركنا أسئلةً لا تنتهي؟ هكذا تخرج من الرواية وأنت تدرك أن الحياةَ لا تُقاس بما تحقق فقط، بل بما ظل مؤجَّلًا، يتنفس في العتمة، وينتظر قُبلة النار. الحياة تُقاس بعدد زهور النار التي تتوق إلى ألسنة لهبٍ تُذيبُ سُكرّها ليصير شهدًا مُصفّى.
أنهيتُ الرواية الحارقة، وذابت روحي مع فيض الرومانسية المضفورة بسحر الفن، واحترق قلبي بنار الخاتمة الحزينة. كنتُ "زهرة نار" احترقت لتصحو على واقع يسمُ مثل تلك العلاقات الجميلة بوسم: Too Nice to be True. فالأشياء الجميلة غالبًا عمرها قصير.


***