-ولنا في الخيال حبٌّ-… السينما في أَوْجِها


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 10:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

منذ مدةٍ طويلة لم أشاهد فيلمًا بكل هذي العذوبة والجمال والاكتمال الفني. هناك أفلامٌ نخرج منها كما دخلناها. وأفلام أخرى تخرج بنا لا منّا؛ تخزُ القلبَ وتُغيّر إيقاعَ خفقه، وتوقظُ فينا ما ظنناه قد انطفأ. فيلم "ولنا في الخيال حبٌّ" ينتمي إلى النوع الثاني النادر: الدراما التي تُعيد للسينما معناها الأول: أن تنحتَ العقلَ وتُزلزلَ الروحَ وتُعدِّل وضعَ المنظار فوق عيوننا لنرى الأشياء بطريقة لم نرها من قبل. منذ المشهد الافتتاحي تصافحك لوحة "ليلة تضيئها النجوم" Starry Night مرسومة على اللحاف والحوائط والملابس، فتشعر أنك على وشك مصافحة الجنون الذي ضرب "فان جوخ" فأبدع كل هذا الجمال: حيث النجوم وقد تحولت إلى شموس صفراء متوهجة تغزو سماء زرقاء داكنة، ورغم دوامات الشموس الكثيرة المتوهجة، يظلُّ الليلُ ليلا والظلامُ ظلامًا، ويظلُّ الحزنُ حزنًا يُطلُّ عليه الفرحُ كومضات مشرقة خاطفة. تمامًا مثلما يظلُّ "الخيالُ" أرجوحةً ترفعنا للسماء تارةً، وتحطُّ بنا على الأرض تارة.
ظلَّ التصفيقُ مستمرًا دقائق طوالا بعدما شاهدنا الفيلم في العرض الخاص أمس الأول خلال "مهرجان الجونة" للسينما، مع نجومه: "أحمد السعدني"، "عمر رزيق"، "مايان السيد"، والمخرجة المدهشة "سارة رزيق" التي أبدعت في فيلمها الطويل الأول. في كتيب المهرجان وضع عنوان الفيلم بالإنجليزية، Love Imagined لأن الفيلم يطرح تيمة "الخيال" حين يكون آخر حصون الروح وطوق النجاة من الغرق في بحر الحَزن.
أستاذ جامعي يفقد زوجته بعد قصة حبّ عميقة، إثر حادث في ألمانيا. وعلى مدى السنوات العشر لم يبرأ من عشقه، ولا من ألم الفقد. بل هو لم يعترف أصلا بالفقد ولا صدّق غياب زوجته. هجر العالم وعاش مع دُمية منحها ملامح محبوبته الراحلة: يجلس إليها، يكلّمها، يطهو لها أكلتها المفضلة، ويعود إليها من العمل ملهوفًا، كأن الموت خيالٌ لم يقع. هذا ليس فُصامًا بل إنكارٌ جمالي للفقد؛ ومحاولة لرأب شقّ غائر في جدار القلب. يقدّم الفيلمُ شخصيةً مفجوعة، لا كضحية، بل ككائن يتشبث بالحياة عند الحدّ الفاصل بين العقل والخيال. جسّد هذه الشخصية على نحو شديد البراعة النجم "أحمد السعدني".
على الضفة الأخرى نتعرف على ثنائي شاب بدأت قصّة حبهما من الطفولة، ويتزاملان الآن في الجامعة. غير أن اختلاف شخصيتيهما أربكت الحبَّ فتعثّر. هو شاعر الخيال، وهي عاقلة الواقع. هو يرى العالم أغنية، وهي تراه مشروعًا. يرى الحياة رومانسية وترى الحياة كدًّا وعملا ونجاحًا. ويقع الفراقُ المُرُّ. ويتقاطع خطُّ الحبيبين الحزينين مع عالم الأستاذ المكلوم، فتبدأ اللعبةُ الكبرى للخيال: رسائلُ موجّهة إلى دمية يظن العاشقُ أنها فتاة جميلة، مغامرات طائشة من شباب عاشق تصطدم بحائط بروفيسور حزين متجهم ووقور. وهمٌ يقود إلى حبّ، وحبٌّ يقود إلى كشف، وكشفٌ يقود الجميعَ إلى أنفسهم.
يبلغ الإبهارُ ذروتَه العليا خلال مشاهد الاستعراض المدهش الذي أدى فيه الأبطال الثلاثة رقصاتٍ فانتازية بالغة العذوبة. تلك المشاهد تُشكّل القلب البصري والسمعي والخيالي للعمل. موتوسيكل يحمل العاشقين فيتحوّل الطريق إلى سماء، والحركة إلى طيران؛ فيرقصُ العشاق فوق السحاب، في لقطة تعلن أن الحب، حين يتحرّر من سلاسل الماديات والصعاب، يكون أقرب إلى جناح عصفور حر. وأما الذروة الثانية فكانت الرقصة الثلاثية الختامية التي جمعت البروفيسور المصدوع بتلميذيه العاشقَين. في تلك اللحظة تصالح الخيالُ مع الواقع، والماضي مع الحاضر. بل تصالحت الأزمنة الثلاثة: الماضي الجريح الذي يمثله الأستاذ، والحاضر القَلِق الذي تمثله الفتاة، والمستقبل المندفع الذي يمثله الفتى، الذي أثبت لأستاذه أن علاج الفقد هو الحياة وصنع الخيال الإيجابي المستقبلي وليس الوهم الماضوي السلبي. في تلك الاستعراضات الجميلة تتحول الموسيقى إلى جسور، والحركة إلى شفاء، والخيال إلى مساحة يتساوى فيها الكبار والصغار، الأحياء والأطياف. رقصات من الفانتازيا الراقية تُعيد للسينما سحرها الأول: الصورة كقصيدة، والموسيقى كقدر جميل. وهنا لابد أن نُشيد بالواعد "عمر رزيق" الذي ذكّرنا بالفنان العبقري الشامل: "منير مراد".
من بين المشاهد الماسّة في هذي الدراما الراقية، لحظة انهيار الأستاذ حين يُفتضَح سرُّ الدمية. يبكي "السعدني" على كتف زميل دراسته وأحد شهود قصة الحب القديمة، كما لو أنه يكتشف موت زوجته الآن بعد عشر سنوات من رحيلها. دموعه كانت الاعتراف أخيرًا بموتها. في هذه اللقطة انفجرت القاعة بالتصفيق؛ لأن البطل لمس في الإنسان وترًا موجعًا: خوفه من الفقد، وعجزه أمام الموت.
هذا فيلم مدهش يُعيد للذائقة احترامَها، وللفن مكانتَه، وللمُشاهِد حقَّه في الدهشة والمتعة. عمل يثبت أن السينما قادرة على أن تداوي وتُضيء وتُدهش وتُنقذ. وحين تُغلق الشاشة بعد المشهد الأخير، لا ينتهي الفيلم في القاعة… بل يبدأ داخلنا من جديد.


***