أطفالُ فلسطين … درعٌ وجبهة!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7772 - 2023 / 10 / 22 - 10:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أن يُقتَل طفلٌ في حرب، فتلك قمّةُ المآسي البشرية التي يصنعها الإنسانُ في حقّ أخيه الإنسان، منذ الأزل وإلى الأبد. أن يدفع طفلٌ حياته ثمنًا لصراع لم يصنعه ولم يكن سببًا فيه، بل ولم يصل بعدُ إلى سنٍّ يفهم فيها معنى الموت ومعنى الحياة ومعنى الحرب ومعنى الوطن، فذاك رأسُ الجنون وانعدام المنطق في الحياة. الطفلُ، أيُّ طفلٍ فوق الأرض، منذورٌ للحياة. منذورٌ للعب، منذور للزهور والأراجيح وكراسات الرسم وحصص الموسيقى وتفتُّح العيون على المعارف. الطفلُ منذورٌ لضوء الشمس لا بريق الشظايا، منذورٌ لرذاذ المطر لا لوابل الرصاص المنهمر، منذورٌ لجبهة الفرح والحب لا جبهات الغضب والكراهية، منذورٌ لحضن الأمّ لا حضن الكفن، منذورٌ لدفء الأمان لا صقيع الخوف، منذور لإشراق اللون لا عتمة الركام والأطلال.
لكن أطفال فلسطين غير جميع أطفال العالم. لا ينطبقُ عليهم ما سبق ولا هم منذورون لما نُذر له الأطفالُ من نعومات الطفولة ودلالها وعذوبة سُكناها. بل حتى لم يعاينوا ما ينبغي أن يعاينه الأطفالُ من شعور فطريّ بالأمان داخل جدران البيت ودفء الأسرة أو على مقعد المدرسة. أطفالُ فلسطين منذورون للويل والشعور الفطري بالتهديد. ثمّة غاشمٌ مُحتلٌّ يرفعُ إصبع التهديد أمام عيونهم البريئة التي بعدُ لم تتفتح على الحياة حتى تتفتح على الموت! تتبدّلُ الآية في الكلام عن أطفال فلسطين. ترحلُ البراءةُ من عيون أطفال فلسطين لتحلّ محلها مسؤولية الذود عن الأرض! يرحلُ اللهو الطفوليُّ ليحلَّ محلّه العهدُ الصعبُ بتحرير الوطن! في فلسطين يتحوّل كلُّ طفلٍ إلى مشروع شهيد بدلا من أن يكون مشروع حياة! ما أقسى ذلك على قلبّ كل أمٍّ لكل طفل فلسطيني! اللهم ارحمهم وارحمنا واجلُ عنهم هذا المحتلَّ الآثم الأثيم.
كتب لي القدرُ الطيبُ أن أزور "فلسطين" البهيّة عام ٢٠١٢، للمشاركة في معرض “رام الله”الدولي للكتاب بدعوة من وزيرة الثقافة الفلسطينية آنذاك د. “سهام البرغوثي”. زرتُ المدارس وتجولتُ مع الأطفال بين أروقة معرض الكتاب وقضيتُ معهم أيامًا لا تُنسى. كنتُ أحتضنُ الأطفال ثم أشخصُ في عيونهم عساي أنجحُ في قراءة المكتوب على جدار أرواحهم. أطفالُ فلسطين المحتلّة وطفلاتها مليحون ومليحاتٌ مثل كل أطفال العالم، ذوو وذوات ابتساماتٍ عذبة مثلهم مثل كل أطفال الدنيا، لكن شيئًا ما كان يسبحُ على صفحات العيون. شيء من الشعور بالتهديد ربما، غيابُ الأمان عن الإنسان لا يستقر داخل القلوب وحسب، بل يطفو على صفحات المآقي. هم يسكنون وطنًا لكن غاشمًا محتلا لا يُقرُّ لهم بهذا الوطن. وهذا الغاشمُ صهيونيٌّ محتلٌّ جاثمٌ على صدر الوطن لا ينتوي الرحيل، وفوق احتلاله الوطن يحمل على كتفيه رشاشًا محشوًّا بالموت لا يطرحه آناءَ الليل وأطراف النهار، وكأنه يقرنُ الاحتلالَ بالتلويح بالموت!
في مدينة "الخليل" ذهبتُ إلى مسجد "الحرم الإبراهيمي"، حيث يرقد جسدُ أبينا إبراهيم، أبِ الأنبياء. دخلنا عن طريق الأردن لكيلا تُوصَم باسبوراتنا بختم صهيون المحتّل. كنتُ أُدثّر عنقي بالحَطّة الفلسطينية (الكوفيّة) المكتوب عليها: "القدسُ لنا". وعند باب المسجد، فوجئتُ بـ ضابطة إسرائيلية راحت تنظر لي بتجهّم وتطلب منّي بخشونة أن أنزع الحطّةَ عن عنقي! اندهشتُ للغاية من هكذا طلب، فأفهمني الرفاقُ الفلسطينيون أن هذه الحطّة تُثيرُ جنونهم كونها رمزًا للمقاومة الفلسطينية! حدّقتُ بغضب في عيني الجندية ثم ابتسمتُ في سخرية وقلتُ لها بالإنجليزية: ( ياااه! كم أنتم ضِعاف! أنتم محتَلّون "مفعول بكم " ، ولستم مُحتلّين "فاعل”. الاحتلالُ يسكن قلوبكم. لهذا ترتعبون من قطعة قماش، لا حول لها ولا قوة! تخافون من ’رمزٍ‘ للمقاومة، لأنكم تؤمنون أنكم لستم أصحاب قضية! إنه شعور اللصّ الذي يسرق ما ليس له! وبالمناسبة أنا مصرية ولستُ فلسطينية، والقدسُ لنا....) وكان الشررُ يتطايرُ من عيني الجندية الإسرائيلية مع كل كلمة من كلماتي وراحت تقترب مني والرشّاشُ بين يديها، ليس كما أمٍّ تحملُ وليدها، بل كوحش يبحثُ عن فريسة. وقبل أن يحتدمَ الموقفُ أكثر، وتتطور الأمورُ لغير صالحي، جذبني الأصدقاءُ إلى داخل المسجد الإبراهيمي، بعدما نزعوا عني الحطّة ودسّوها في حقيبتي. وبالرغم من أنني كنتُ أتميّزُ غيظًا من نزعها ومن الموقف البائس، إلا أن شعورًا غامرًا بالفرح والانتصار راح يخفقُ بقلبي، إذ عاينتُ بنفسي ضعفَ بني صهيون وهشاشتهم.
الحروبُ عمياءُ بكل أسفٍ، ليس بوسعها أن تتجنّب الأطفالَ حين تحصدُ الأرواح. لكن الخسيسَ يستهدفُ الأطفالَ كما فعل صهيونيٌّ لا قلبَ له مع الطفل الفلسطيني "محمد الدرّة" في انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠، حين طارده بالرصاص وأرداه شهيدًا! ويا تلاميذ غزّة علمونا ... فقد نسينا.








***