علي الحجار ... ١٠٠ سنة غنا | ١


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7730 - 2023 / 9 / 10 - 11:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“علي الحجار" …”١٠٠ سنة غنا" (١)

في جلساتي مع أصدقائي، يرنُّ هاتفي بنغمة "جفنُه علَّم الغزل" بصوته، وصدحُ هاتفي الآخر بـ"حانةُ الأقدار"، بصوته أيضًا. ويعيد الأصدقاءُ سؤالي عن غرامي بصوته، وأعيدُ إجابتي: “صوتُه مثقف". أما فارسُ السينما الأنيق "أحمد مظهر" فقال عنه: “صوتُه فيه كرامة". لنا أن نتصوّر هذه المعادلة المدهشة حين تجتمع "الثقافةُ"، مع "الكرامة"، في صوت بشري شجيّ مَنَّ اللهُ عليه بحلاوة في الجواب والقرار عبر طبقات صوتية ثرية، لا نهاية لتنوّعها! إنه صوتُ الفنان الكبير "علي الحجار" الذي هو "نَسْجٌ وحده"، مستحيلٌ أن تُخطئَه مع صوت آخر. جميلٌ صوتُه واستثنائيٌّ إن غنّا أغنياته الخاصة التي يحفظُها "السمّيعةُ" في أرجاء الوطن العربي، وفريدٌ صوتُه واستثنائيّ إن شدا بأغنياتٍ من تراثنا المصريّ الفريد لعظام الطرب مثل "أم كلثوم، عبد الوهاب، محمد فوزي، سيد درويش" وغيرهم من صنّاع إرثنا الخالد.
لهذا كان ذلك التفاعل الجماهيري الهائل الذي صاحب بانوراما الوطنيات الغنائية التي اختتم بها "علي الحجار" حفلته في "مهرجان محكى القلعة". حيث رفعت الجماهيرُ الشابّةُ أعلامَ مصر كما مظلّة ضخمة تتماوجُ على إيقاعات الموسيقى التي جُدلت في فسيفساء فنيى مدهشة من: "الله أكبر بسم الله، أحلف بسماها، وأنا على الربابة باغني، خلّي السلاح صاحي، دولا مين، رافعين رايات النصر، وغيرها من أغنيات انتصارات أكتوبر المجيدة.
ولأنه "مثقفٌ"، فنيًّا وفكريًّا، وتربى على يد موسوعة ثقافية بشرية هو الأب الموسيقار " إبراهيم الحجار"، فقد غُرست في طفولته بذرةُ الفن الأصيل وتدرّبت أذناه على المقاماتِ اللحنية الصحيحة؛ فكان كلّما كَبُر يومًا استقرَّ في وعيه أكثر أن تراثنا الفني الثريَّ، لا يخبو جمالُه مع الوقت، ويستحق أن يُؤرَّخَ له ويُخلَّدَ ويتجدد مع مستحدثات التوزيعات الموسيقية الحديثة التي من شأنها أن تُكسبَ الأغنيات مذاقات جديدة تطفرُ بالجمال. كانت بداية الحُلم عام ١٩٨١ حين غنّى "داري العيون" للعظيم المجدّد "محمد فوزي"، بتوزيع الموسيقار "ميشيل المصري" الذي وزعها برؤية معاصرة مع الحفاظ على روح اللحن الأصلي. وانتشرت الأغنيةُ في ثوبها "الحجاري" الجديد ضمن ألبوم "اعذريني" وباعت ٤ مليون نسخة، وكان، ومازال، كثيرون يظنّون أنها من أصول أغنياته. لهذا يحرصُ "علي الحجار" على ذكر اسم المؤلف والمُلحن والموزع قبل تقديم أية أغنية، وهدفه في ذلك، ليس فقط التوثيق والحقوق الفكرية، بل حرصه كذلك على تثقيف الشباب فنيًّا وزيادة حصيلته التراثية، لكي يتعلّموا أن هذا العمل الفني الجميل، أو ذاك، لا يُنسب وحسب إلى المطرب الذي يحبّونه، بل هو نتاج تضافر عبقريات صُنّاعه من الشعراء والموسيقيين والعازفين. هكذا يكون الفنانُ المُثقَّفُ المُثقِّف. وفي حفل آخر عام ١٩٨٣ طلب "الحجّارُ" من الموسيقار "عماد الشاروني" عمل توزيع موسيقي جديد لأغنية عيد الميلاد "يا نور جديد" لمحمد فوزي، وعزفها أوركسترا من كونسرفاتوار وكورال الأوبرا، وحققت الأغنيةُ نجاحًا غير مسبوق ضمن ألبوم "متصدقيش". وتوالت التوزيعات الجديدة لأغنيات قديمة بصوت مصر الفريد "علي الحجار"، ومنها "أهو ده اللي صار" لفنان الشعب "سيد درويش"، بتوزيع الموسيقار "ياسر عبد الرحمن"، والفاتنة "جفنه علَّم الغزل" للموسيقار "محمد عبد الوهاب" بتوزيع شبابي مدهش للموسيقار "مودي الإمام". وفي التسعينيات سمح الموسيقارُ الخالد "محمد الموجي" للفنان المثقف "علي الحجار" أن يٌغني رائعته "حانةُ الأقدار" بتوزيع ابنه الموسيقار "يحيى الموجي"، وكان الناتج سحرًا يفوق الخيال يصدحُ به هاتفي كلّما دقّ بابي. الجميل فيما سبق هو أن كل موزع ممن فصّلوا أثوابًا جديدة لتلك الأغنيات، قدموا رؤى ثرية سمحت للفنان "علي الحجار" أن يغنيها بأسلوبه الفنيّ الخاص، دون تقليد ولا استنساخ. لهذا غدت تلك الأغنياتُ "إضافة" حقيقية إلى مدونة الغناء العربي، وهو ما مهّد الأرض للحلم الفني العظيم الذي اشتغل عليه الفنان "علي الحجار" قرابة الربع قرن؛ وهو مشروع "١٠٠ سنة غُنا" الذي يستحقُّ أن يكون حلمًا قوميًّا تساعد على خروجه للنور وزارةُ الثقافة والهيئة الوطنية للإعلام وغيرها من الجهات الوطنية المعنية بالفنون والتراث، لئلا يندثر تراثُنا المصري الخالد. فمثلما شيّد الفنانُ المصري المعابدَ والأهرامَ والمسّلاتِ والجدارياتِ والتماثيل لكي يُسجل تاريخَ مصر وأحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال عهود ملوكها وملكاتها، ونقش على جدرانها الآلات الموسيقية التي استلهمها العالمُ على مر العصور وصنع منها ما نعزف عليه اليوم موسيقانا، كذلك علينا أن نؤرخ لإرثنا الموسيقي المصري الهائل ونحفظه ونعيد تقديمه برؤى عصرية حتى تظلَّ الأجيال المتعاقبة على دراية ووعي بما قدّم أجدادُهم من فرائد فنية رفيعة.
كل الاحترام للفنان المثقف "علي الحجار" ومشروعه القومي العظيم "١٠٠ سنة غُنا"، الذي يستحق كامل الدعم. وفي مقال قادم سأقدم لكم تفاصيل فلسفة هذا المشروع كما رسمه الفنان "علي الحجار".
***