المولد النبوي الشريف … دون سكر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7754 - 2023 / 10 / 4 - 10:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“السُّكر غِلي/ وأنا أحايله بإيه/ وفي قلبي حِلي/ طعمه كده ليه؟" أغنية شهيرة خفيفة الظل شدت بها الجميلة "إيزيس" أو "سهير المرشدي" من كلمات العمدة "سيد حجاب" وألحان الموسيقار "ميشيل المصري"، في مسلسل "ليالي الحلمية"، وكأنها من من الفولكلور المصري القديم. وأظن أن السكّر المقصود في الأغنية مجازيُّ المعنى، يغازل به الشاعرُ البناتِ الحسان ويعاتب نُدرتهن أو تدللهن على العشاق. لكن الواقع حوّل مجازية الأغنية إلى واقع "مُرّ" يعيشه العالمُ بأسره في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار منذ جائحة كورونا وما تبعها من تضخم وكساد واستغلال التجار الجشعين. وهذا "المولد النبويّ الشريف" قد دقَّ الأبواب قبل أيام، وهي المناسبة التي نتبادل فيها نحن المصريين علب "حلاوة المولد" كطقس خالد في ثقافتنا منذ العصر الفاطمي. وتقف "عروسة المولد" على رأس الطقوس المصرية المحبّبة للمصرين، وهي كتلة ضخمة من السكر والماء، بالإضافة لأطباق الحلوى التي تتبادلها الأسرُ المصرية في هذه المناسبة الطيبة. وهذا العام وصلت أسعار أطباق حلوى المولد لأرقام عجيبة تجاوزت بضعة آلاف من الجنيهات!! وفضلا عن السعر الخرافي، تأملوا كمّ المخاطر الصحية التي يحملها طبق الحلوى بما يحوي من كميات مخيفة من السكريات المركزة التي من شأنها أن تقتل أو تصيب الإنسان بالمرض! ليتنا نستغل حالة الغلاء التي يمرُّ بها العالم لنتخلص من عاداتنا غير الصحية ونستبدل بها "الرمز”. فالخطيبُ الذي لابد أن يزور خطيبته بعروسة مولد وعلبة حلوى، وإلا عُيِّر، ماذا لو أهدى خطيبته طقمًا من حلل الجرانيت مثلا، وكتب على الهدية: “حلوى المولد النبوي الشريف"؟! هل بوسعنا أن نخرج من الصندوق الضيق، أم نُتهم بما لا يليق؟
الغلاءُ الفاحش الذي يضرب جميع أنواع السلع، وراءه جشعُ التجار. ولكن، مَن الذي علّم التاجرَ الجشَعَ؟ نحن. لأن وراء كل تاجر جشِع، مستهلكًا غير واع. الهَدرُ آفةُ المجتمعات الرجعية. نلعن الغلاء وجشع التجار ولا نعترف أبدًا أننا أحد أسباب الغلاء وجشع التاجر والتضخم وعجز الموازنة. دعونا ننظر إلى سلال مهملات بيوتنا قبل أن يحمل عمالُ النظافة ما بها من صنوف طعام مغدورة لم تؤكَل، حتى ندرك حجم هدرنا.
دعوني أقصُّ عليكم واقعة حقيقية عن وعي شعب بعيد، علّنا نتعلم منه كيف بوسعنا ترويض جشع التجّار بترويض أنفسنا.
في أحد النهارات، ذهب مواطن أرجنتيني إلى السوبر ماركت، ولاحظ أن سعر طبق البيض مرتفعٌ عن الأمس. سأل البائعَ؛ فأجابه بأن شركة الدواجن رفعت سعر البيض ١ بيزو! بهدوء أخذ المواطن الأرجنتيني علبة البيض وأعادها إلى مكانها قائلا إن هناك ما يعوضه عن البيض. حذا حذوه جميعُ المواطنين وقاطعوا البيض دون حملات تعبوية ولا رسائل.
ماذا كانت النتائج؟ في اليوم التالي: جاء مندوبو الشركات لإنزال انتاج اليوم في محلات السوبر ماركت كالعادة؛ فرفض الباعة أن يأخذوا أي جديد لأن إنتاج الأمس لم يُبع، وطلبوا تبديل إنتاج اليوم بإنتاج الأمس. وهذا معناه إعدام البيض القديم لانتهاء صلاحيته. توقعت الشركات أن المقاطعة ستنتهي خلال أسبوع وبعدها سيعود الناس للشراء، لكن الأمر لم يختلف. ظل الشعب الأرجنتيني على موقفه أسبوعين وشركات البيض تخسر. الشركات تخسر لإطعام الدجاج، والإنتاج لا يتوقف لأن الدجاج مازال ينتج بغزارة. فتراكمت الخسائر على تلك الشركات وتضاعفت. اجتمع أصحاب شركات الدواجن وقرروا إعادته لسعره السابق. واستمرت مقاطعة الشعب الأرجنتيني للبيض، والشركات تفلس والمسؤولون يجن جنونهم لما يحدث. فاجتمع التجار مرة أخرى وقرروا ما يلي:
- تقديم اعتذار رسمي للشعب الأرجنتيني عبر جميع وسائل الإعلام.
- تخفيض سعر البيض عن سعره السابق إلى ربع القيمة السابقة.
إنها ثقافة شعبٍ ووعيه. ثقافة الاستغناء حين يعمُّ الغلاءُ، وثقافة عدم الهَدر حين تضيقُ ذاتُ اليد. قارنوا بين فوائد البيض ومضار السكر، لتعرفوا جبروت شعب استغنى عن أساسيات، لا عن سموم.
تقول الإحصاءاتُ الدولية والمراقبون الاقتصاديون إن الدول الأكثر فقرًا هي ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا. بينما الدول الغنية لا تعرف تلك الثقافات الشكلانية المرضية التي تجعلك تشتري ما لا تحتاج إليه. مَن سافر إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها من دول الغرب يعرف أن المواطن هناك يذهب إلى السوبر ماركت فيشتري عدد واحد ثمرة برتقال، دون خجل، وثلاث حبات من ثمر الخوخ دون أن يفكر في نظرة الكاشير وماذا سيقول عنه. لن يقول عنه شيئًا لأنه مثله ينتهج السلوك المحترم نفسه، ولا يشتري إلا ما يحتاج إليه، وفقط. ليس من سبيل لمقاومة الغلاء إلا بالاستغناء. علينا مقاومة الجشع بالوعي وعدم الهدر. دعونا نستمتع بالمولد النبوي الشريف دون أطباق حلوى، ولتكن حلوانا صدقاتٍ طيبة نخرجها للفقراء والمرضى والمعوزين. وكل عام ونحن أكثر طيبة دون سكر.