أنا … -أمٌّ مثالية-... لابنٍ مثاليٍّ
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8297 - 2025 / 3 / 30 - 12:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
غمرني الفرحُ حين اختارني "مجلسُ الشباب المصري"، و"منتدى القيادات النسائية" أمًّا مثالية لعام ٢٠٢٥، ضمن جميلاتٍ استحققن هذا اللقب الرفيع. "الأمومةُ" في ذاتها لقبٌ عظيم، وحين تُكرَمُ الأمُّ وتُكرَّمُ بأن تُهديها السماءُ طفلاً من أبناء "طيف التوّحد"، يزدادُ اللقبُ ثِقلاً وقيمةً وإشراقًا. الأمومةُ تجربةٌ مدهشة، لكن أمومةَ المتوحِّد رحلةٌ ثريةٌ حاشدةٌ بالاكتشافات المدهشة التي تفاجئُك في كل دقيقة من كل ساعة من كل يوم. أن تكون أمًّا لطفلٍ على "طيف التوحد"، يعني أن تعيش حياةً غير عادية، تعيدُ فيها اكتشافَ الأشياء البسيطة وكأنك تراها لأول مرة. أن تحتفل بكلمة، وتبتهج لابتسامة تجعلُ الشمسَ تشرقُ في قلبك. يعني أن تصبح مترجمًا لعالمٍ مختلف، تفهم لغتَه التي لا يفهمها الآخرون، وتحفظ خريطة مشاعره التي لا يراها سواك.
لم أخترِ ابني، لكن لو قِيدَ لي الاختيارُ ما اخترتُ إلا هذا المدهش "عمر". لو خُيّرتُ بين أمومتك وبين كنوز الأرض، لاخترتُك أنت يا “عمر”. لم أختركَ، بل أنتَ مَن اختارني من عالم الغيب، كما قال أحدُ العارفين: إن أطفال "طيف التوحد" ينتقون أمهاتِهم ليكنَّ رفيقاتِ الرحلة الشاقّة الشيقة، ليضعوا أياديهم الصغيرة في أيادي أمهات جسورات قادرات على نسج الابتسامة من خيوط الدمع، واختراع الأمل من مادة القنوط، وانتزاع الفرح من جسد الوجع. فكيف وقعَ اختيارُك عليَّ يا "عمر"؟ أيّ سرٍّ دفعك لاختياري، وأي نورٍ أبصرتْه روحُك في روحي لتضع يدك في يدي، وتُسلّمني مفاتيحَ عالمك المُدهش؟ ذاك العالمُ البعيدُ عن صخبِ البشر، القريبُ من موسيقى السّماء.
لو قِيدَ لي أن أعودَ إلى اللحظةِ الأولى، إلى حيثُ كنتُ روحًا تتجوّلُ في المدى، وسُئلتُ: أيّ الأقدارِ تهوين؟ لقلتُ: “أختارُ أن يكون قدري مشبوكًا بقَدر هذا الصغير الجميل الذي علّمني ما فاتني أن أتعلّمه على مقاعد الدرس. علّمني أن الصمتَ لغةٌ، والعُزلةَ زحامٌ، وأن لمسةً من يد ذاك الصامتِ المنعزلِ على يدي حين أبكي، تُحوّل الحزَنَ إلى ابتسام، وتُذيبُ قساوةَ الحياة على باب الرجاء في وجه الرحمن.
يا بُني، عليك أن تعلم أنك هديةُ الله لي، اصطفاني بها لئلا يتوقف لساني عن شكره. وإن كان التكريمُ شهادةً تُمنَح، فقد منحتَني أعظمَها. وإن كان الفخرُ تاجًا يُرصّع الجبين، فقد توّجتَني منذ أن نطقتَ اسمي بعينيكَ قبل شفتيك. وإن كانت الأمومةُ رحلة، فأنا الرّاحلةُ في بحركَ الهادئ، وواديك الصموت، أتعلمُ منك كلَّ يومٍ ألفَ درسٍ من دروس الجمال، غير مسطورة في موسوعات الدنيا. في كتابَيَّ اللذين كتبتُهما عن تجربتي مع ابني: "عمر … من الشرنقة إلى الطيران"، "عمر … بيتٌ من المكعبات في مدينة الملائكة"، بابٌ عنوانه: “ماذا تعلّمتُ من عمر"، يزخرُ ببعض تلك الدروس التي لو أفردتُ لها صحافَ الأرض، ما وسعتها.
شكرًا للدكتور "محمد ممدوح"، وشكرًا للدكتورة "أماني البدري" على اختياري ومنحي درع "الأم المثالية". وشكرًا للسفيرة الراقية "مشيرة خطّاب" التي شرّفت الحفل مع الأمهات الجميلات من فلسطين وأفريقيا اللواتي أشرقن كالشموس في مقر "مجلس الشباب المصري" أمس الأول في احتفالية "الأم المثالية لعام ٢٠٢٥". وشكرًا لابني الجميل "عمر" الذي منحني شرفَ أمومته. والشكر كله لله على هذه النعمة الغالية.
=
(إلى عُمر)
أتوبيسُ المدرسة الذي لم تستقلّه، يهمسُ لي بأنه حزينٌ، يفتقدُ صخبَك ونداءاتِك على الصحاب لحظةَ العودة إلى البيت. مقعدُك في المدرسة الذي لم تشغله أبدًا، أخبرني بأنه ظلَّ يخترعُ الحيلةَ تلو الأخرى حتى يظلَّ شاغرًا في انتظارك عامًا بعد عام، يأبى أن يُجلسَ عليه تلميذًا غيرَك. الكراساتُ والكتبُ المدرسيةُ والأقلامُ والبرجلُ والمنقلةُ والمسطرةُ والمثلثُ والممحاةُ التي لم تعرف طريقَها إلى حقيبتِك، وحقيبتُك التي لم نشترها لك من محل الحقائب المدرسية، والزيُّ المدرسيُّ الذي لم يلامس جسدَك إلا عامًا وبعضَ عام، والفصولُ التي لم تدخلها إلا قليلًا، وروبُ الجامعة والقبّعة التي لم ترفعها في نشوة لتلقيَها في الهواء مع قبعاتِ الصحاب يومَ التخرج. ابنةُ الجيران التي لم تقف في شرفتها تختلسُ النظرَ إليكَ، ولم تلقِ لها قصائدَ وورودًا في مشابك الغسيل، جميعُها حزينةٌ، تفتقدُ حضورك وتبكي خساراتِها وضيعتَها؛ كحزن أمٍّ ظلَّ الدمعُ يطفرُ من عينيها كلَّ مساء، وتمزقت أوتارُ أصابعها وهي تعدُّ المساءاتِ الطويلةَ التي ما أشرقت فيها شمسٌ، ولا طلَّ قمرٌ، وما جرى ماءٌ في نهر، ولا زادَ البناءُ عُلوًّا، وما ازداد المعجمُ حروفًا ولا كلماتٍ إلا بقدر ما تقطرُ غيمةٌ بخيلةٌ على صخرةٍ جافة؛ قطرةً نحيلةً كلَّ عام. لكن ابتسامتَك الرائقةَ وأنت تقولُ: "بحبك يا ماما"، تعادلُ الكونَ وما فيه، وتُطلق ملايين العصافير من أعشاشها.
***