عيدُ الفطر … ذكرياتُ الفرح
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8300 - 2025 / 4 / 2 - 10:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
يقولُ "الحلاج"، شهيدُ العشق الإلهي: “إذا بلغ العبدُ حقيقةَ الصوم، صار بلا ذات”، أي تذوبُ ذاتُه وتفنى، ويعودُ الإنسانُ إلى أصله الروحاني النقيّ. فالصومُ عند أهل التصوف ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فحسب، بل انقطاعٌ عن كل ما يشغل القلبَ عن الحبّ المطلق والمحبوب الأزلي. هو تحرّرنا من ثِقل أجسادنا وعلوّنا وتسامينا وفناؤنا في عشق الله، ومحبة جميع خلقه. حتى إذا ما جاء العيدُ، برقَ الإشعارُ بميلاد جديد، وأذن الاحتفالُ بانتصار الروح على الجسد، والمحبة على الكِبرِ والأنوية. فالعيدُ يحمل معنى “الإعادة”؛ أي العودة إلى الحالة النقية التي خُلق الإنسانُ عليها، حين كان روحًا صافية لا أثر فيها للدنيويات والدنايا. لهذا يقول “أبو بكر الشِّبلي” مخاطبًا الَله: “إذا ما كُنتَ لي عيدًا فما أصنعُ بالعيدِ؟! جرى حُبّكَ في قلبي كجري الماءِ في العُودِ!”
اليوم تنتهي رحلةُ الصوم، وعند بوابة الوصول يُصافحُنا عيدُ الفطر المبارك، بكامل أبهائه، لكي يُعيد إلينا قيمة المحبة والتواصل، ويُذكّرنا بأن الحياة، رغم مشاغلها وهمومها، تحمل في طياتها لحظاتٍ فريدة، تستحق الاحتفاء. في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، تتهيّأ البيوتُ لاستقبال العيد. تنبعث روائحُ الكعك والبسكويت من نوافذ المطابخ، حيث تجتمع الأمهات والجدات حول الطاولات، يعجنّ حكايات الحب والفرح، ويخبزن ذكريات الطفولة. كنّا، ونحن صغار، نلتف حولهن، نراقبُ المناقش في أياديهن، نتوسّل أن يكون لنا نصيبٌ في نقشة، نختلس قطع العجين لنصنع عروسة أو سفينة، ونحلم باليوم الذي نكبرُ فيه لنصنع بأنفسنا تلك الطقوس الحلوة.
يأتي العيدُ حاملا في مِخلاتِه ذكريات الطفولة المحفورة على جُدر قلوبنا بطبشور الحنين. حين كنا صغارًا، كان العيد يحمل لنا وعودًا وأمانيَ، وكأنه نافذةٌ تُفتح على عالم الأحلام الملونة. في صباح العيد، نستيقظ مع أول خيوط الشمس، نرتدي ثيابنا الجديدة التي انتقيناها مع أمهاتنا قبل أيام. ثيابٌ خيوطُها أحلامٌ وعطرُها فرحٌ، وبمجرد أن تمسَّ أجسادَنا، تطفرُ من طيّاتها أجنحةٌ تُحلق بنا في سماوات البهجة. نلتقي الأصدقاء والجيران والأهل، وتحتشدُ المساجدُ بالمصلين، وتشدو المآذنُ بالتكبيرات المتوالية التي تهز القلوبَ وتغمرها بالسكينة والاطمئنان؛ "الُله أكبرُ اللهُ أكبر كبيرا" إذ نوقن أن فوق كل عالٍ عليًّا لا يعلوه شيء، وكبيرًا أكبرَ من جميع هموم البشر. تمسسنا قدسيةُ اللحظة ومهابةُ الموقف ونحن نردد التكبيرات بصوت خافت، ونحاكي الكبار في خشوعهم. بعد الصلاة، تفتح البيوتُ أبوابها لاستقبال الزوار. الأمهاتُ يقدمن الكعك والبسكويت المخبوز بالحُب، والآباء يتبادلون التهاني والدعوات الطيبة. ثم نذهبُ إلى بيت الجدة ونحن نعِدُ أنفسَنا بالهدايا والعيديات واللحظات البانورامية التي تجتمع فيها الأجيالُ المختلفة من العائلة. كان بيتُ جدتي مسرحًا لأجمل لحظات طفولتنا. الجدة الجميلة وقد سهرت ليالي تعد لنا مفاجآت العيد بأسلوبها الفريدة. من أجمل تلك المفاجآت لعبة “التامبولا”، حيث تجهز الجدة هدايا صغيرة مغلّفة بالأوراق الملوّنة، عليها أرقام. ومازال طعمُ الحماس في ذاكرتي ونحن نترقّب صندوق الأرقام، تغور فيه أيادينا الصغيرة، لكي تلتقط ورقةً مرقّمة، ونُمنّي النفسَ بأن يكون الرقمُ مرهونًا بهدية مميزة أو لُعبة جديدة. وفي معظم الأحيان تكون تلك الهدايا مضحكة أو طريفة أو غير مناسبة لصاحبها، فتتعالى الضحكاتُ وعبارات المزاح، لكننا نعرفُ أننا في كواليسنا الخفية سوف ننتحي جانبًا ونتبادل الهدايا ليأخذ كلٌّ ما يناسبه، بعيدًا عن عشوائية الأرقام وعبثية الحظوظ. تلك اللحظات، المليئة بالتشويق والفرح، كانت تزرع في قلوبنا معاني جميلة منها أن العائلة هي مصدرُ الفرح وأن العيد هو مَحَطُّه. ثم تأتي فقرة "العيديات"، تجول عيونُنا الطفلةُ لكي تُحصي عدد الكبار من أجداد وجدّات وأخوالٍ وأعمام، ثم تقومُ عقولُنا بحسابات تقريبية لما سوف نحصده من أوارق مالية جديدة زاهية اللون من البنك رأسًا لأيدينا الصغيرة. ثم تسرحُ خيالاتُنا فيما سننفق تلك الأموال، التي كنّا نعتبرها كنوزًا هائلة، أي ألعاب سوف نشتري، وأي فقراء سوف نمنح من مغانمنا الصغيرة؛ فقد علّمني أبي المتصوفُ العظيم، رحمه الله، أن للفقير حقًّا في مصروفي، وبالتالي في عديتي. هكذا يظلُّ عيد الفطر كنزًا في ذاكرة الطفولة، حاشدًا باللحظات المشرقة بالسعادة، نعود إليها كلما أتعبتنا الأيامُ وأنهكتنا الصروف.
ومرتِ السنواتُ والعقودُ، وصارتِ الطفلاتُ أمهاتٍ والأطفالُ آباءً نحملُ في قلوبنا ذكريات العيد في سنوات الطفولة وبيت الجدة، نحكيها لأطفالنا ونحن نرجو لهم أن يتذوّقوا طعمَ الفرح الذي خبرناه في طفولتنا.
الزمنُ يمضي، والبيوتُ تتغير، والصغارُ يكبرون، والكبارُ يرحلون، لكنهم يتركون في جيوبنا ذكرياتٍ عصيةً على الرحيل. تلك الذكريات تصبح زادًا لنا، نسترجعها في كل عيد، فنشعر بأنهم ما زالوا بيننا، يشاركونا فرحة اللقاء. كل عامٍ والفرحُ يسكننا.
***