زلزالٌ …. إبني …. و-غزّة”!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8346 - 2025 / 5 / 18 - 11:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

كنتُ جالسة في غرفة المعيشة أطالع كتابًا، وغفوتُ برهةً خاطفة، لأصحو فزِعةً على ارتجاج الأريكةُ التي تحملني. لوهلةٍ ظننتُ أن "ليزا وبانكي"، كلبتَيَّ الصغيرتين، تتعاركان أسفلها! وهممتُ بالانحناء لأفضَّ الاشتباك، لأسمع صوتَ اصطكاك الثريّات في النجف، ولمحتُ تمايل التماثيل والفازات؛ فأدركتُ أنه زلزال قوّي! ولم أفكّر في شيء إلا ابني "عمر"! صرختُ أناديه وركضتُ للبحث عنه؛ فوجدته في غرفة المكتب يحاول إنقاذ تمثال القطّ الفرعوني "باستت"، إذ قرر السقوط من المكتبة. هرعتُ إليه واحتضنتُه ووضعتُ يدي فوق رأسه لأحميه، وقلبي ينفطرُ خوفًا عليه. راعني هدوؤه الواثقُ، واطمئنانه المريب! بل ابتسامتُه التي قابل بها هلعي! ثم انتبهتُ إلى أن مثله لا يجزع. فالملائكةُ لا تفزع ولا تخشى ما نخشى. هتفتُ: “زلزال يا عمر!"، فهمس بهدوء وهو يتحرر من عناقي:”التمثال وقع… اتكسر! زلزال زفت جدًّا!” وبعدما أتمَّ ترميم التمثال، دخل غرفته بهدوء لينام. ولخوفي عليه من التوابع، رحتُ أتوسّلُ إليه أن ينام إلى جواري في غرفتي، أو يسمح لي بالنوم في غرفته! وجاءت الإجابةُ التي توقعتُها: الرفض. من العبث محاولة إقناع صبيٍّ تحت "طيف التوحد" مثل "عمر" بأن يخاف، أو أن يكسر عادات توحده ووحدته. أحضرتُ مقعدًا ووضعته أمام باب غرفته الموصد؛ لكي أحرسه! كيف أحميه؟ لا أدري! ولكنه اطمئنان البقاء على مقربة منه، والسلام! وسهرتُ الليلَ حتى الصباح. ولكيلا أغفو فتحتُ "لايف" حيًّا فيTikTokمع الساهرين من متابعيني وأصدقائي من مصر والمغرب وأمريكا وفرنسا. عزف مَن عزف، وغنّى مَن غنّى، وقرأ الشِّعر مَن قرأ، وتحدثنا عن الكتب والثقافة والتصوّف والزلزال، وبالقطع فلسطين.
سهرتُ الليلَ أحرسُ ابني. وددتُ أن يسقط السقفُ على رأسي دون رأسه، وأن ينهار الجدارُ على جسدي قبل أن يمسَّ ظلَّه! وأنا أحتضنه لحظة الزلزال وطوال مناوبة سهري، لم يغب عن ذهني وجهٌ أعرفه!"الأم الفلسطينية"! لحظات خاطفة من زلزال، ألقت بي في جُبّ الخوف على صغيري، فما بال أمهات فلسطين يعشن الرعب على صغارهن كل لحظة من ساعة من يوم من عام؟ يعشن نهارهن وليلهن تحت القصف وتحت الجوع والظمأ!
كان زلزالًا خاطفًا في مصر مركزه جزيرة "كريت". مخيفٌ؟ نعم! لكنه مَرَّ. لكن ثمة زلزالاً لا ينتهي ولا يمرٌّ. الزلزالُ الأشرس لا يأتي من باطن الأرض، بل من باطن الإنسان، إذْ يقسو ويفجُرُ في الخصومة! الزلازلُ تخرجُ من قنابل الفوسفور إذ تجور، لا من صدوع القشرة الأرضية إذ تثور. من جَور الطائرات القانصة، لا من تحرّك الصفائح والطبقات الكلسية. صافحني "وجهُ غزّة" التي تصافحُ الزلازلَ كل ليلة. غزة التي لا يطيبُ خاطرُها بعد الزلازل برسالة من صديق أو منشور يحمل آياتٍ طيبات؛ لأن زلازلها لا تخمد. غزة التي لا تعود إلى بيتها لتنعم بالأمان؛ لأن البيوتَ صارت حُطامًا. غزة التي لا تُطفئ الأضواءَ لكي تنام، لأنها الأنوار مطفأةٌ منذ شهور.
إذا أفزعنا زلزالُنا القاهريُّ وقد استمر عشر ثوانٍ، فما عدد الثواني التي عاشها طفلٌ في غزة تحت القصف على مدى عامين؟ كم مرة حملت أمٌّ طفلها وركضت مرتعبة مثلما ارتعبتُ أنا على صغيري! بوسعنا أن نحمل أطفالنا راكضين إلى الطرقات، فإلى أي طرقاتٍ تحمل الأمُّ الغزاويّة صغارَها، والطرقاتُ أرضُها لغمٌ وسماؤها بارود؟!
ارتعبنا في مصر من موتٍ محتمل. فكيف حالك يا غزة تعيشين الموتَ المقيم، بين فرصُ نجاة هي الاحتمال؟! الموتُ في غزّة ضيفٌ ثقيلُ الظلِّ لا يبرح. ينامُ معهم على أسرّتهم، ويأكل من طعامهم، ويغسلُ وجوه أطفالهم كل صباح. الزلزال الذي هزّ أرض القاهرة، ذكرنا أن الموتَ وشيكٌ والحياةَ هشّة، لكن غزة تذكّرنا كل يوم أن الإنسان، حين ينسى إنسانيته، يصبح الزلزال الأشرس والأقسى والأكثر عماءً. هدأ الزلزالُ القاهريُّ فخلدنا إلى النوم، لكن الكابوس في غزّة لا يبرح ولا يترأف لكي ينام الصغارُ آمنين.
كيف يحقُّ لنا أن نشكو لحظة خوف، وحول أجسادنا جدرانٌ تحمينا؟ بينما هناك في فلسطين الجريحة، لا ظلّ لجدار، ولا ظلّ لمستقبل، ولا ظلّ لطفولة ترومُ أن تعيشَ وتكبرَ وترسمَ قلوبًا على الحوائط تضربها أقواس الحبّ!
طوباكِ يا غزة. أيّتها المدينةُ التي لا تُسقطها الزلازلُ. يا زهرةَ النار، يا عروس الخنادق. سلامًا لكِ من قلوبٍ خافت لحظةً، لتدرك أن الخوف سُكناكِ، ولا أحد يسمع. غزّةُ يا نبضَ شعبٍ في الخطوبِ يعيشُ، يا طفلةً تبكي وتكتمُ جُرحَها، وتعلّمُ الدنيا الصمودَ النبيل، يمضي عليها الموتُ ألفَ مرّةٍ، وتظلُّ تُزهرُ في الرمادِ وتشرقُ، جاعتْ، فما شكَتِ المجاعةَ لحظةً، عفّتْ، وما قبِلتْ أن تَهِن أو تنحني.
***