هنا بيروت: التعدديةُ ثراءٌ ... لا إقصاء
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 11:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من مكارم الأخلاق، أن تحبَّ للناس ما تحبّه لنفسك، وألا ترضى للآخرين ما لا ترضاه لنفسك. في هذا يقول "ابن عربي": "العارفُ مَن يرى كلَّ نفسٍ كنفسه، وكلَّ وجعٍ كوجعه، فلا يرضى لنفسٍ ما لا يرضاه لنفسه”. فإذا كنت تكرهُ أن تُقتَل أو تُعذَّب أو تُظلم أو تُقصى أو تُهمّش أو تُنتقصَ حقوقُك بسبب عقيدتك، فكيف تقبلُ هذا على المختلفُ عنك عقديًّا؟! فإن كنتَ من الأكثرية الدينية في بلد، فقد تكونُ غدًا من الأقلية الدينية في بلد آخر من هذا الكوكب الذي يضمُّ أكثر من ٤٠٠٠ ديانة ومعتقد، فضلا عن المذاهب والطوائف. ولهذا لا سبيلَ للتعامل مع هذي السيولة النسبية؛ إلا باحترام حق كل إنسان في الحياة والمواطنة الكريمة، مهما كان معتقدُه. فتلك مشيئةُ الله في تعدد البشر واختلاف وجهات نظرهم وتباين رؤاهم، "ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين".
هنا "بيروت" الجميلة. رغم القصف الإسرائيلي على إحدى ضواحي جنوب بيروت الذي استقبلنا يوم وصولنا إلى لبنان يوم ٢٧ أبريل، للمشاركة في "المؤتمر الإقليمي لحرية الدين والمعتقد" الذي تنظّمه "مؤسسة أديان" سنويًّا، إلا أن مصافحتنا لأولئك الشباب الواعد غسلت الحَزَنَ التي يخزُ القلوب كلما شهدنا ظلمَ الإنسان وتجبّره بسبب شهوات التسيُّد والتسلُّط والاستعمار والأنوية. مجموعة من الشباب المثقف تترأسهم الدكتورة "نايلا طبارة"، الأستاذة الجامعية والباحثة في علوم الأديان والدراسات الإسلامية، وصاحبة كتاب "الرحابة الإلهية" بالشراكة مع الأب "فادي ضوّ"، والذي سوف أُفرد له مقالا مستقلا بإذن الله. آمن أولئك الشباب المثقف بأن التعددية الدينية لا يجب أن تكون مصدرًا للشقاق والاختصام والنبذ والإقصاء، بل للإثراء البشري والنهوض بالمجتمعات والتقدم الإنساني. اجتمعوا على تلك المبادئ الإنسانية العُليا فأسسوا عام ٢٠٠٦ "مؤسسة أديان" التي تسعى إلى بناء عالم يحتضن التنوّع الديني والثقافي، حيث هذا التنوّع مصدرُ غِنًى وتفاهم وتعزيز للمواطنة الشاملة، والتنمية الإبداعية، والسلام المستدام، والتضامن الروحي. وتعمل المؤسسة محليًا وإقليميًا ودوليًا للنهوض بالتعليم من خلال تطوير برامج تعليمية تعزز العيش المشترك والمواطنة الحاضنة للتنوّع، وتقديم أبحاث ودراسات حول التنوّع الديني والثقافي وسبل إدارته، والمساهمة في تطوير سياسات تعزز التعددية والعدالة الاجتماعية، وكذلك في مجال الإعلام من خلال إنتاج محتوى إعلامي حضاري يُكرّسُ قيم التفاهم والتعايش ونبذ خطاب الكراهية، عطفًا على بناء شبكات مجتمعية تعزز التضامن والتعاون بين مختلف الفئات، وإطلاق منصّات تثقيفية مثل: “بحُريّة”، المبادرة الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهادفة إلى تقديم معلومات شاملة حول وضع حرية الدين والمعتقد في المنطقة، وتعزيز التعاون بين الأفراد والمنظمات العاملة في هذا المجال.
بصوت يعلو فوق صخب النزاعات والقصف، اجتمعنا في بيروت، المدينة الساحرة التي طالما حملت فوق أكتافها تبعات التعددية والتنوّع. برعاية "مؤسسة أديان"، انطلق مؤتمر حرية الدين والمعتقد، ليضع سؤال الحرية الفردية على طاولة النقاش الجاد. وعلى مدى يومين كانت الجلسات الحوارية من الثراء والتنوّع الإنساني والعقدي وحكايا ضحايا القمع الديني في مختلف بلدان العالم بحيث شعرنا بوجع الموجوعين وآلام فقد الأهل تحت معاول العنف والإقصاء والقمع، فشعر كلٌّ منّا بوخز تأنيب الضمير، وكأننا الجُناة، كوننا نتشارك مع القُساة هذا الكوكب المنذور للشقاء. كان اللقاءُ أكثر من كونه مؤتمرًا أكاديميًّا حاشدًا؛ بل أشبه بورش "القلب المفتوح"، حيث اختلط الهم الفكري بالوجع الإنساني بالشجن الروحي، وحيث تلاقت قلوبُ الباحثين، والنشطاء، والمفكرين، على حلم واحد: مواطَنة صحية تضمن حرية الإيمان والاعتقاد دون خوف أو نفاق.
يقول الشيخ الأكبر "محيي الدين ابن عربي": “لن تبلغَ من الدين شيئًا حتى توقِّرَ جميعَ الخلائق.” ومن هنا أكد المشاركون في المؤتمر، الذي جمع باحثين وأكاديميين ومثقفين وقادة دينيين من مختلف أنحاء العالم، على مبدأ "الكرامة الإنسانية" كقيمة أساسية مشتركة بين الأديان، واحترام فكرة التعددية الدينية وحتمية التعايش السلمي بين أتباع الديانات المختلفة، والحق في ممارسة الشعائر الدينية في أمان، ورفض الإكراه الديني والتمييز العنصري على أساس الدين أو المعتقد. تستند هذه المبادئ (البديهية) إلى قواسم مشتركة في التعاليم الدينية المختلفة، وهو ما يستدعي تقديم خطاب ديني مشترك يدعم حقوق الإنسان في الحياة بكرامة تحت مظلة الاختلاف العقائدي والتنوع الديني والطائفي والمذهبي.
الأديانُ في جوهرها ملاذٌ للرحمة والحنوّ، فكيف ومتى سمحنا أن تكون أداة قمع وتجبّر؟! علينا تذكّر مقولة "مارتن لوثر كينج" عام ١٩٦٥ في معرض تنديده بالعنصرية العرقية في أمريكا: “علينا أن نتعلم العيش معًا كإخوة، وإلا الفناء معًا كأغبياء”. شكرًا للقائمين على هذا المؤتمر الغني الذي ناقش جوهر الكرامة الإنسانية وحقّ الإنسان في العيش دون خوف من البطش باسم العنصرية العقدية.