مدرستي الجميلة CGC ... ١١٠ عامًا من المجد (١)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 11:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مدرستي الجميلة CGC ... ١١٠ عامًا من المجد (١)
Facebook: @NaootOfficial
هذي مدرستي/ وهذي فصولُ طفولتي/ وهذا في عمقِ الزمان/ حنينُ الذكريات:/ ترانيمُ شدوناها في كنيستنا/ وآياتٌ من الذكرِ الحكيمِ/ تلوناها في رحاب مسجدي/ ذاك قربانٌ من سنابل قمح مصر/ خبزتْهُ أيادي الراهباتِ/ على دفءِ القلوبِ الطيبة/ تقاسمه أطفالٌ يعرفونَ الحبَّ/ وقطائفُ من ليالي رمضانَ البهيةِ/ رششناها بشهدِ المحبة/ وسكاكرِ العهدِ النقيِّ/ تخاطفتها أيادي الصغار./ هذي مدرستي الجميلةُ وقد غدتْ/ حصنًا من حصونِ العلمِ/ ترنو العيونُ إلى جواهر مجدها/ هذا العَلَم/ فوق سارية الفَخَار/ يحيا الوطن/ وتحيا مصرُ الماجدة./ هذي مدرستي/ هنا تعلّمتُ أن اللهَ/ يسكنُ في قلوبِ الطيبين/ وأن الملائكةَ تغنّي/ إذ نُغنّي/ وأنها تبكي قَطرَ المطر/ حين يضربنا الحَزَن/ وتفردُ جناحيها لتحمي طفلاً يوشكُ أن يقع./ يا شجرةَ التوتِ العتيقة/ أشرقي/ أورقي/ كي نختلس/ من جودِ أغصانِك الخُضر/ وريقاتٍ ناضراتٍ/ نُطعِمُ بها ديدانَ الحرير./ هذي مدرستي الأنيقة/ وتلك حيطانُ فصولِها/ على مقاعدها نهلنا العلومَ/ ومن خلاقِ معلمينا/ تعلمنا القِيَم.
هذي كلماتُ قصيدتي التي ألقيتُها أمس الأول في احتفال مدرستي الجميلة: "كلية البنات القبطية-CGC"، بعيد ميلادها العاشر بعد المائة، أمام مديرة المدرسة، ووفد رفيع المستوى من وزارة التربية والتعليم، والشخصيات العامة، بتشريف قداسة البابا المثقف "الأنبا تواضروس الثاني"، الذي ألقي كلمة بديعةً غاية الجمال والعمق؛ قال فيها إن الأدبيات تقول إن "الثروات والكنوز مخبأة في باطن الأرض"، لكن الحقيقي أن "الثرواتِ والكنوزَ مخبآتٌ بين جدران الفصول.” وتكلّم مطولا عن تميّز مصر وتفوّقها على جميع دول الأرض لحيازتها سبع حضارات مختلفة، وهذا ثراءٌ لا يضاهيه ثراء. ثم تكلّم عن عراقة مدرستي، فهي واحدةٌ من أعرق المدارس التي انتبهت إلى حتمية تعليم البنات في تاريخ مصر. ١١٠ عامًا من التعليم الرفيع والتنشئة التربوية الراقية، تخرجت منها فتياتٌ غدون من رموز المجتمع المصري، منهنّ: “د. فرخندة حسن"، "د. ليلى تكلا"، الفنانة "نبيلة عبيد"، الإعلامية "نجوى إبراهيم"، وأفخرُ أنني واحدة ممن تخرجن من هذه المدرسة البهية، التي تعلّمتُ فيها رفيع العلوم وجميل الخُلق.
غالبني الدمعُ وأنا أرنو إلى الفصول التي تنقّلتُ بينها طفلةً صغيرة، وخفق قلبي وأنا أشهدُ عَلَمَ المدرسة الذي كنتُ أقفُ تحت ساريته أهتفُ: “تحيا جمهورية مصر العربية"، “اسلمي يا مصرُ إنني الفِدا”. دُعيتُ كضيف شرفٍ إلى عشرات الحفلات في المدارس داخل مصر وخارجها، لكن زيارة مدرستي القديمة بعد عقود من مغادرتها إلى كلية الهندسة، ثم إلى الحياة، كان له مذاقُ الشجن العميق الذي يُجري الدموعَ في القلب والعينين، حنينًا وذكرى.
وكأنه بالأمس فقط. مازلتُ أذكرُ يومي الأول بمدرستي الجميلة التي نحتفل اليوم بإشعال ١١٠ شمعة في كعكة ميلادها. المدرسة التي قضيتُ فيها أجمل أيام طفولتي، وتعلّمتُ فيها القيمَ الرفيعة التي كانت وسوف تظلُّ عماد حياتي. كلما مرَّ بخاطري هذا اليوم البعيد، اختلطت في أنفي روائحُ وألوانٌ: الديسكات الملونة بالروز والأزرق والأخضر، مع روائح الشجر الأخضر المغسول الذي يُطلُّ علينا من شباك الفصل، وثمار التوت على الشجرة العتيقة التي كنّا نتسلقها لكي نجمع أوراق التوت لنُطعم "دود القزّ" في صناديق الورق المقوى، والكشك الأخضر الواسع الذي كان ملاذنا للجلوس والراحة بعد الركض واللعب في الفسحة، مع رائحة رمل الحوش المُندّى بالمطر، والشاهد على شقاواتنا ومشاكساتنا مع الدادات الطيبات اللواتي كنّ، بكل حبٍّ، يستوعبن كوارثنا الصغيرة، حين نخرّب كل النظام الذي صنعنه في الصباح الباكر، فيتحول مع نهاية اليوم إلى فوضى.
أتذكّرُ بكل حبٍّ: ميس "فريدة" ذات الوجه الهادئ الحزين التي تشبه "فاتن حمامة" في وداعتها، ميس "عايدة" النشطة التي كانت ترفع شعرها للأعلى في كعكة كورية وتتحرك في خطوات سريعة وتشبه "سونغ هاي كيو"، ميس "سهام" التي تقصُّ شعرها "آلا جرسون" وتشبه "أودري هيبورن"، ميس "سوزان" معلمة الحساب الجميلة التي تشبه "إليزابيث تيلور"، ميس "راشيل” معلّمة الإنجليزي، التي كانت تشبه الملكة "حتشبسوت" في شموخها وشعرها الأسود الفاحم المقصوص "كاريه"، وطولها الفارع ووجهها الجامد الذي قلّما يبتسم، والقميص الأبيض المكوي، والجيب الأسود “الساك”، والشراب الڤوال البيج والحذاء الأسود إنجليزي الطراز ذي الكعب العريض القصير. كنتُ أراهُن جميعًا مثل ربّات الأساطير الإغريقية. فهن يحملن مشعلَ "العلم والمعرفة" وفي رؤوسهن مكتبات الدنيا وموسوعات التاريخ والعلوم. إذا ابتسمن في وجوهنا، فنحن بخير وعلى الطريق القويم، وإن مرّت سحابةُ غضب على وجوههن فنحن بالتأكيد قد حِدنا عن الطريق القويم والويلُ لنا. وتأكد لي أن المعلمة "كائنٌ خرافي" خارجة من أساطير التاريخ بسبب هذه الواقعة الطريفة التي سوف أقصُّها عليكم في مقالي يوم الخميس القادم بإذن الله. كل عام ومدرستي في أعلى العُلا.
***