-يوم زايد للعمل الإنساني-… إرثُ العطاء المستدام
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 11:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
"لقد منحنا اللهُ هذه الثروة لتطوير بلادنا والإسهام في تطوير الدول الأخرى”، “علمتنا الصحراءُ أن نصبر طويلاً حتى ينبتَ الخيرُ، وأكبر استثمار للمال هو استثماره في بناء أجيال من المتعلّمين والمثقفين.” لعلَّ تلك العبارات المُلهمة تُلخِّص لنا شخصيةَ أسطورةٍ إنسانية حيّة عزَّ نظيرُها، صارت أيقونةً للمثابرة والنجاح وفنّ صناعة الجمال ينظرُ إليها العالمُ باحترام وتقدير بعدما نجح في تقديم معجزة حيّة اسمها "دولة الإمارات العربية المتحدة". أمس الموافق ١٩ رمضان، حلّت ذكرى رحيل أحد الرموز العالمية الخالدة التي قدمها العربُ للوجود خلال القرن الماضي. “الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان" طيّب الله ثراه، الذي كان نموذجًا فريدًا للفكر المستنير والعطاء البنّاء ودائرة الخير التي لا تتوقف ولا يخبو نورُها. ولأن أُولي النُهى يعرفون كيف يحولون الحزنَ إلى فرح، والفقدَ إلى عطاء، اختار أبناؤه وشعبه هذا اليوم الحزين ليحولوه إلى جدول من العطاء لا يجفُّ ماؤه ولا تتوقفُ انعكاساتُ الضوء على صفحته، فجعلوا من يوم الرحيل عيدًا سنويًّا أطلقوا عليه "يوم زايد للعطاء الإنساني"، الذي من أهدافه: “أن يكون الخيرُ نهجًا مُستدامًا في الإمارات والمنطقة العربية والعالم أجمع.” ولعلّها من المصادفات الوجودية العليا أن يتزامن هذا اليوم مع شهر رمضان المعظّم، لكي يكتمل الرمزُ الطيب. فهو لا يُخلّد فقط إرث زايد الإنساني، بل يربط مسيرته الخيرية بروح شهر العطاء والرحمة. في هذا اليوم، تتجدد ذكرى القائد الذي جعل من الخير أسلوب حياة، وتنطلق المبادراتُ الخيرية في الإمارات وحول العالم لمواصلة نهجه في البذل والتسامح، و ترسيخ العمل الإنساني كأساس في منظومة القيم الإماراتية وسلوكًا حضاريًا تتناقله الأجيال. وبذلك، لم يعد التاسع عشر من رمضان مجرد ذكرى رحيل كابية، بل تحوّل إلى يومٍ للحياة والعطاء، حيث تُزهر القيمُ التي زرعها "الشيخ زايد" في كل يد تُساعد، وكل قلب ينبض بالحب غير المشروط لكل البشر.
لم يكن "الشيخ زايد" حاكمًا يُديرُ دولةً، بل أبٌ يرعى، وإنسانٌ يحنو، وسحابةٌ تمطرُ في صيفِ القحطِ، فلا يعرفُ الجفافُ طريقَه إلى الأرضِ التي مرَّ بها قلبُه. وسار أبناؤه وذووه على خُطاة حاملين مشعلَه الذي لا يخبو نورُه جاعلين من السموّ الإنساني سلوكًا طبيعيًّا وأسلوب حياة تلقائي. حتى أنهم جعلوا عقوبة المذنبين في الجرائم المدنية، ليس السجن، بل العمل الميداني في مساعدة الناس وتجميل الشوارع حتى يغرسوا في النفوس منهاجَ التحضّر وتحويل النواقص إلى إشراقات، والخطايا إلى طيبات. وقد ذكرتُ بعض هذه المآثر التي انفردت بها دولةُ الإمارات في كتابي: "إنهم يصنعون الحياة- بناء الإنسان في دولة الإمارات" الصادر عن دار "روافد" عام ٢٠١٨ الذي تشرّف بتصدير سمو الشيخ "عبد الله بن زايد".
منذُ خطا خطواتِه الأولى في دربِ الحُكمِ في سبعينيات القرن الماضي، لم يسأل الشيخ زايد: “كيف نبني ناطحاتِ السحاب؟” بل راح يسألُ: “كيف نَبني الإنسانَ؟” لم يكن يعنيه أن تتباهى المدنُ بأضوائِها، بقدرِ ما كان يعنيه أن يشرقَ الأملُ في عيونِ الفقراءِ واليتامى والمرضى والمنكوبينَ في كل بقعةٍ فوقَ هذا الكوكب. لقد أدرك بثقافته الفطرية أن الأوطانَ ليست حجارةً تُرصَف، بل قلوبٌ تتآلفُ، وأنَّ البناءَ الحقيقيَّ ليس في الجدرانِ، بل في الأرواحِ. لهذا، لم تعرف أياديهُ حدودًا؛ فامتدَّت بالخيرِ شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، في فلسطينَ، اليمنِ، مصرَ، الهندِ، أفريقيا، في كلِّ زاويةٍ كان فيها إنسانٌ يُنادي، كان صوتُ زايد يُجيبُ: “ها أنا ذا.” فلا معنى للحياة ما لم نتكاتف ونعطي بسخاء لمن يحتاج.
في١٩ رمضان من كل عام، تتزيَّنُ الإماراتُ بمشاريعِ الخيرِ، فينطلقُ القادرونَ نحو المستشفياتِ والملاجئِ ودورِ الأيتامِ، يوزّعونَ الحُبَّ على شكلِ طعامٍ وكساءٍ ومأوى. وكأنَّ "الشيخ زايد" رحمه اللهُ لم يغب، بل تحوَّلَ إلى ألفِ يدٍ تُربّتُ على كتفِ هذا العالمِ المُتعَب المرزوء بالويلات والحروب والجوائح. فالنخلُ الذي غرسَهُ زايدُ في أرجاء الإمارات لم يكن نخيلًا يمنح التمرَ رمزَ الحياة وحسب، بل صار مظلّةً يستظلُّ بها العالمُ بأسره. لهذا، لا يمضي هذا اليومُ عابرًا في الإماراتِ، بل يُنتظَرُ من العام للعام باعتباره نافذةً تُفتحُ على السماءِ، يُطلُّ عبرها زايدُ قائلا: “ما زلتُ هنا، في كلِّ كفٍّ تُعطي، في كلِّ عينٍ تبتسم، في كلِّ قلبٍ ينبضُ بالرحمة.”
فالشاهد أن "العمل الإنساني في الإمارات" ليس مجرد مبادرات عابرة، بل صار نهجًا مؤسسيًّا مستدامًا، حيث احتلت الإماراتُ المرتبة الأولى عالميًا في تقديم المساعدات الخارجية لسنوات متتالية. ومنذ رحيله قبل واحد وعشرين عامًا في ٢ نوفمبر عام ٢٠٠٤، تسير القياداتُ الإماراتية على خُطى "الشيخ زايد" الملهمة، حيث أُسست مئات المبادرات الإنسانية، من أبرزها "مؤسسة زايد للأعمال الخيرية والإنسانية"، التي تواصل تقديم الدعم للمحتاجين والمنكوبين في مختلف دول العالم. رحم الله هذ الرجل العظيم وعظّم أجره.
***