الأوقافُ والأزهرُ في وداع البابا -فرنسيس-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 09:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
الكبارُ من رموز العالم، الذين كرّسوا حياتهم لنشر قيم السلام والمحبة بين بني الإنسان، هم ميراثٌ مشتركٌ بين البشر أجمعين. لهذا، احتشد نحو نصف المليون مشيّع في ساحة كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان في مراسم وداع البابا "فرنسيس"، يتقدمهم ملوكٌ وأمراءُ ورؤساءُ دول وشخصياتٌ عامة من جميع أرجاء الأرض، ومن مختلف العقائد والجنسيات. ومن مصر سافر الدكتور "أسامة الأزهري"، وزيرُ الأوقاف ومستشارُ رئيس الجمهورية للشؤون الدينية إلى روما، لتقديم واجبَ العزاء وحضور مراسم الجناز التي أُقيمت صباح أمس الأول ٢٦ أبريل. وقد حضر الوزيرُ، على رأس وفد رفيع المستوى من مؤسسة الأزهر الشريف، نيابةً عن الرئيس "عبد الفتاح السيسي"، وبالأصالة عن نفسه. فقد كتب الدكتور "الأزهري" كلماتٍ راقية نعى بها البابا فرنسيس، واصفًا إياه بأنه “رمز إنساني من الطراز الرفيع”، مشيدًا بدوره البارز في دعم قضايا العدالة والسلام، مُثمّنًا حرصه على مد جسور الحوار مع العالم الإسلامي. كذلك أعرب الإمام الأكبر الدكتور "أحمد الطيب" عن حزنه العميق لوفاة البابا، واصفًا إياه بأنه “شخصية إنسانية متميزة” و”صديق عزيز” كرّس حياته لخدمة الإنسانية، وأشاد بمحبة البابا فرنسيس للمسلمين، وإخلاص دعوته للسلام، وثمّن دفاعه عن فلسطين وأهل غزة المضطهدين، وقال إن جهوده الطيبة أسهمت في دفع جهود الحوار الإسلامي-المسيحي. تعكس تلك الكلمات الراقية عمق وأصالة العلاقة الطيبة بين الأزهر والفاتيكان، والتي توثّقت عُراها خلال توقيع وثيقة “الأخوة الإنسانية” في أبو ظبي عام ٢٠١٩ والتي تهدف إلى تعزيز قيم التسامح بين البشر على اختلاف أعراقهم، وترسيخ أخلاقيات التفاهم والتقارب والحوار الإيجابي بين الأديان. أما الرئيس "عبد الفتاح السيسي" فقد أشار إلى أنه سيظل مُمتنًا للقاء الذي جمعه بالبابا فرنسيس في مقر إقامته بالفاتيكان، معبرًا عن تقديره لشخصه وجهوده في تعزيز السلام والتفاهم بين الأديان. هكذا الكبارُ يعرفون قيمةَ الكبار ويقدّرون جهودهم ويُُعلّون لواءَ الإنسانية ويُجلّون مقامَ الرحيل ويدركون أن المحبة كنزٌ هائل إن فرّط فيه البشر، تراجع موكبُ الإنسانية وتصدّعت أركانُه.
وها نحنُ كذلك نحتشدُ في رحاب كنيسة سان جوزيف للآباء الفرنسيسكان بالقاهرة، لنقدّم واجب العزاء في فقيد الإنسانية الجليل قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان الذي جال يصنع خيرًا، وغمر العالم برسالته الإنسانية، ومحبته للسلام، ودعوته الدائمة للرحمة والتواضع والحنو على الفقراء والبسطاء والمرضى واللاجئين، وحتى الخُطاة للأخذ بأيديهم نحو الصلاح. ولم نأتِ لنودع بابا الفاتيكان، بل لنودّع رمزًا للضمير الإنساني الحي، ورقمًا صعبًا في عالم رجال الدين الذين تخلّوا عن مظاهر الأبهاء وغادروا قصورهم العالية ليتجولوا في الطرقات بين البسطاء والمعوزين يمدون لهم يد المحبة والاحتواء والإقرار بكرامتهم.
ولم يكن حضورُ الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وتمثيلُ الرئيس "السيسي" في شخص الدكتور "أسامة الأزهري"، مجرد حضور بروتوكولي شكلي، بل كان رسالةً مصرية بالغة الدلالة تكرّس إيمان الدولة المصرية بأن القيم الإنسانية العليا، مثل الرحمة والسلام والمحبة، تتجاوز الأطر الدينية والسياسية، لتصبح لغةً واحدة يتحدث بها كل مَن أدرك جوهر الأديان، وفهم رسالة السماء إلى الأرض. تلك الرسالة التي تتلخص في كلمة واحدة: “الإنسان”. وكان ذلك الحضورُ المصري والإسلامي الرفيع في وداع بابا الكاثوليك ردًّا حاسمًا على صغار النفوس فقراء الروح ضحال العقل الذين لوثوا صفحات السويشال ميديا بكلمات الشماتة في رحيل هذا الرمز العالمي الطيب، دون احترام لجلال الموت ولا مكانة الراحل الكريم، وربما دون أن يدركوا أنهم بسلوكهم المراهق هذا، إنما يسيئون لديننا الحنيف الذي علّمنا الاحترام والتحضّر والسمو.
كان البابا فرنسيس رجل لقاءٍ وحوار، لا رجل سلطة وتعالٍ. عاش يبني الجسور بين القلوب، لا الجدران بين الأمم. دعا إلى كسر شوكة الكراهية، وأيقظ الضمير العالمي للدفاع عن المظلومين، لاسيما في مناطق النزاع والصراع مثل فلسطين؛ فلم يتردد في إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، ونادى بإيقاف نزيف الدم، ونُصرة المدنيين والأطفال. كان يؤمن أن الأديان خُلقت لا لتتصارع، بل لتتعانق في سبيل بناء عالم أكثر رحمة وإنصافًا وسلامًا. لهذا لم تحزن الكنيسة الكاثوليكية وحدها على رحيل البابا فرنسيس، بل حزن عليه كل قلب آمن بأن هذا العالم لا يُدار بالقوة، بل بالرحمة، ولا يُحكم بالجبروت، بل بالتواضع.
رحل البابا فرنسيس، بعدما ترك في ضمير البشرية أثرًا لا يمحوه الزمان. ترك سيرةً نبيلةً لرجل آمن بالإنسان، ودافع عن الضعفاء، وغسل أقدام الفقراء واللاجئين، واعتبر أن كرامة الإنسان فوق كل اعتبار.
سلامًا لروحك، أيها الأبُ الحاني الذي ابتسم في وجه صغيري المتوحد "عمر" وربّت على رأسه. امضِ إلى الخلود في سلام، وطوبى لمَن يحمل الشعلة التي أوقدتها في عالمٍ يحتاج إلى الضياء والمحبة والسلام.
***