“صلاح دياب-… عاشَ ليحكي
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 00:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
"مازلتُ ذاك الرجلَ الذي ابتكر لكِ الأعيادَ. وأنتِ مازلتِ تضعين العطرَ الناعمَ ذاته، وتُشرقين بنفس الابتسامة، التي تبوحُ بالكثير دون قول! مازلتُ ذلك المُجرَّبَ الذي يكتب أشعارًا لا يقرؤها أحد، وأمشي في الطريق الذي يستهويني. طريقٌ واحدٌ استطاع أن يجعلني سعيدًا، ذاك الذي سلكناه معًا ذات يوم.”
هذه الكلماتُ العذبةُ التي كتبها عاشقٌ لجميلته، ذكّرتني بأقدم عبارة غزل في التاريخ، قالها رجلٌ لمحبوبته: “هي التي من أجلها تُشرقُ الشمسُ"، قالها الملك "رمسيس الثاني" لزوجته الملكة "نفرتاري"، وحفرها على جدران معبد "أبو سمبل"، الذي بناه الملكُ تكريمًا لمليكته الجميلة.
أما العاشقُ، بطل هذا المقال، فهو المهندس "صلاح دياب"، وأما المحبوبة المُتغزّلُ فيها، فهي المهندسة الجميلة "نيني الطويل"، زوجته ورفيقة مشواره الطويل، وأما القطعة الغزلية فوردت في مذكراته الصادرة عن "الدار المصرية اللبنانية" بعنوان: "هذا أنا".
أدبُ "السيرة الذاتية" من أعذب وأصعب ألوان الأدب. "العذوبةُ" مصدرُها الصدقُ والتحرّرُ من الخوف من دينونة الناس، وأما "الصعوبة" فمصدرها القدرةُ على "التعرّي" في وجه العواصف، وكشف الكواليس التي لا ينبغي لها أن تُرى. كاتبُ السيرة الذاتية لا يكتبُ عن نفسه وفقط، بل لابد أن يمرَّ قلمُه على أعناق جميع من صادف من بشرٍ. حينًا يكون مرورُ القلم رهيفًا حانيًا، وحينًا يكونُ كما نصلٍ حادٍّ يجزُّ عنقَ مَن يمسَّه. وعلى الكاتب أن يتحمّل المحاكمةَ التي ستُعقدُ ضدّه، ويكون جاهزًا لدفع "ديّة" الأعناق التي نحرَها قلمُه. لهذا تفتقرُ المكتبةُ العربية، بل والعالمية، إلى هذا اللون من الأدب "العزيز" و"الخَطِر”. السيرة الذاتية ليست قَصًّا لوقائعَ وتواريخَ، بل تحليلٌ فلسفي وشعوري ونفسي لكل ما جرى. ولا تسلمُ من محاكمة الماضي، وهي محاكمةٌ خاسرة، تشبه مصارعة "دون كيخوتة" لطواحين الهواء. فالماضي مستحيلٌ أن يُدان أو يُهزم أو يعترف بأخطائه. هو المنتصرُ دائمًا بأمر الزمان وقوة حدوثه. “عشتُ لأحكي" ماركيز، "أيام" طه حسين، "الطريق إلى الحرية" مانديلا، "قصة حياتي" هيلين كيلر، "اعترافات" جان جاك روسو، "الخبز الحافي" محمد شكري، "أنا" العقاد، "طواسين" الحلاج، وغيرها من فرائد السير الذاتية، جميعُها كُتبت بقلم الألم، ومحبرة الوجع. حتى أعظم الناجحين في العالم، وبطلُ حكايتنا أحدُهم، لم يصلوا إلى نجاحاتهم إلا بعدما تمزّقت أقدامُهم على طريق الشوك.
حين تجد اسم رجل أعمال بحجم "صلاح دياب" على غلاف كتاب "سيرة ذاتية"، فلابد أن تتوقّع صفحاتٍ حاشدةً بالأرقام والإحصاءات والأرباح والخسائر ومصطلحات البترول والزراعة والاستثمار وغيرها من عالم الأموال والصفقات. لن تنتظرَ قلبًا على ورق. ولكنك، ومنذ الصفحة الأولى، وحتى الأخيرة رقم ٤٠٠، ستُفاجأ بقلبٍ تحوّر إلى يدٍ تقبضُ على شريانٍ تحوّر قلمًا يكتب. هذا كتابٌ ممتعٌ. وأنا نادرًا ما أعيدُ قراءة فقرة في صفحة، لأن العمر قصيرٌ والمرءَ يحتاجُ إلى خمسة آلاف عام ليقرأ ما يستحق القراءة، اللهمّ إلا فقرة في قصّة لـ"تشيكوف" المستحيل، أو "إبراهيم أصلان" المدهش، ومن في مستواهما الشاهقين. لكنني أعدتُ قراءة عديد الفقرات "الإنسانية" في هذا الكتاب، مثل ما كتبه "صلاح دياب" عن جدّه الصحفي المناضل "توفيق دياب" وعذاباته من أجل الوطن، وما كتبه عن زوجته وأبنائه، ووالدته عاشقة "شكسبير"، وخاله الراحل الذي ورث اسمه "صلاح"، وما يزخر به الكتابُ من المواقف الماسّة كأن يتحوّل خصمٌ إلى رفيق قلم، مثل "عبد الله كمال"، وحين شيّد صحيفةً هائلة بحجم "المصري اليوم" لكي يردّ اعتبار صحفي جسور دفع فاتورة صدقه مثل "مجدي مهنّا" وحرصه على أن تكون منبرًا نظيفًا في زمن عكِر على غرار صحيفة "الجهاد" التي شيدها جدّه لتصوّبَ سهامها في وجه الفاسدين دون خوف ولا حسابات؛ إيمانًا بأن كلمة الحق في وطنٍ منذور للمحن، تساوي طلقة في يد مقاوم، أو حين يفكّرُ في تشييد محال "لابوار" لكي يتذوّق طفلٌ قطعة حلوى، أو حين يكتبُ عن نصالٍ تكسّرت على النصال في قلبه بلغت ذُراها في زنازين السجون، حيث انتظار الفجر، لا بصفته موعدًا للخروج والحرية، بل مجرد رمز لبزوغ ضوء من عتمة، وحين كتب عن إخفاقاته وكبواته قبل نجاحاته، والأرستقراطيات المتنافرة التي صنعته، وغيرها من مئات الخيوط الإنسانية العذبة المُعذّبة التي نسجت سطورَ هذا الكتاب الجميل، الذي يفتح نوافذَ نتلصصُ من خلالها عليه طفلًا في بيتٍ مزدحم بالكتب، وحفيدًا لصحفيٍّ ترجم الثورةَ إلى رصاصاتٍ على جريدة، ثم مهندسًا شابًا يخرج من بيت الثقافة إلى بيت المال، دون أن يخسر إنسانيته. يقفُ وراء ستار الاعتراف مُقرًّا بأخطائه، ثم يقف أمام "مرآة ميدوزا" ينظرُ إلى نفسه ويبتسمُ؛ لأنه مازال حيًّا، ومازال يتعلّم.
"صلاح دياب" في "هذا أنا" لم يقدم صورة مصقولة عن رجل ناجح، بل كشف عن قلبٍ كسرته الحياة، وعقلٍ تحدّى المألوف، وبصيرة آمنت بأن الحريةَ، مهما كلَّفت، تستحق.
***