في -عيد الأب-… أقدّمُ لكم أبي
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 12:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
الأحدُ الثالث من شهر يونيو، يحتفلُ العالمُ بـ"عيد الأب". وهو عيدٌ خجول؛ يمرُّ على أطراف أصابعه، يكادُ لا يذكره أحدٌ، على عكس "عيد الأم" ذائع الصيت. لكنني من القِلّة الذين يتذكّرون هذا العيدَ المنسيَّ ويحتفلون به؛ لأن لي أبًا استثنائيًّا غرسَ فيَّ نبتةَ الحبّ التي لا تذوي. علّمني أبي أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله. وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا، لأنه تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا؛ كما في الحديث القُدسي.
إنه أبي المتصوفُ الذي علّمَ طفولتي أن أحبَّ جميع الناس دون سبب ودون تمييز؛ لأن كراهية أيّ إنسان مختلفٍ في الدين أو الطبقة أو العِرق ينمُّ عن فقرٍ في الوعي والأخلاق والإيمان بالله. كنتُ أراه يختصمُ، ولا يكره. يختلفُ في الرأي، ولا يلعن. يساجلُ خصومَه فكريًّا، ولا يدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. وعلّمني أن أدعو بشفاء كل مرضى الدنيا. وإن رحل شخصٌ كنتُ أسمعه يهمس: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم ارحم موتى العالمين.” والعالمين: هم كل ما خلق اللهُ وسوّى.
علمني أبي ألا أتمنى الشرَّ لأي كائنٍ حيّ، ولو آذاني. لأن القوةَ في العُلوّ والنبل والغفران، لا في التصاغر والخِسّة والانتقام. فأن مَن يكره لا يحبُّ. علمني أن أقولَ: "سلامًا"، لمن لا يستحقُّ المجادلة؛ فأكون من "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". علمني أن أساجل الأقوياء، لا الضعفاء والموتى. فالضِعافُ لهم المؤازرة، والموتى لهم المغفرة.
أورثني أبي قلبًا "عاطلا" عن الكراهية، ولم أسعَ يومًا لإصلاحه. فأحمد الله أنني لم أقف يومًا مُتلبِّسةً بجُرم الدعاء على أحد بالشر، رغم ما عايشته من ظُلم، وكم ظُلمت! فقط كنتُ أدعو الله بأن يفصل بيني وبين الظالمين بكشف كيدهم، وكفِّ شرّهم. علّمني أبي أن البغض صَغارٌ في النفس، وأن النُبلَ هو المحبة، حتى المسيئين.
هذا أبي المتصوف الجميل الذي حفظ القرآنَ كاملا، وكان يؤذنُ للصلاة في المسجد بصوته العذب. احترمَ، وعلّمني أن أحترمَ، جميعَ العقائد؛ لأنها سعيٌ إنسانيٌّ نبيل للبحث عن الله.
أحسن اللهُ مُقامَك يا أبي في فردوس الله الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم نبيلة جعلتني أحيا في حال سلام روحي، رغم أن فاتورة محبة "جميع الناس" باهظةٌ ومُرّة. فأنْ تُحبَّ "جميعَ" الناس، يعني أنْ يحاربَكَ "معظمُ" الناس! لكنني سأظلُّ في درب المحبة غير المشروطة؛ لأن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلي، أهمُّ من حُكم الناس على الناس وهم لا يعلمون. ولهذا قال الإمام "عليّ بن أبي طالب": “لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه.” ومحبةُ الناس حقٌّ، لأن الله أحبَّ جميعَ خلقه، وهو الحق.
كان أبي الجميل يُجلسني على ركبتيه ويقرأ لي قصصَ الأنبياء. علّمني القرآنَ وضبطَ مخارج الحروف. وكان يعشقُ الطربَ الأصيل فيُدير جهاز تسجيل جروندج Grundig ليُشيعَ في أرجاء البيت صوتُ "أم كلثوم" و"عبد الوهاب" و"فهد بلان" و"صباح"، أولئك عَشقهم أبي وأورثني عِشقَهم. وكان يحبُّ القرآن بصوت العظيمين: "المنشاوي" و”عبد الباسط"؛ فورثتُ عنه عشقَهما. وكان يحبُّ "فؤاد المهندس، وشويكار"، ويتباهى بما لديه من ثروة قيّمة من مسرحياتهما. ويقول إنني أشبه “شويكار”. وذات يوم قامت أمي بمسح جميع ما سجّل أبي من مسرحيات وأغان من الاسطوانات لكي تسجّل عليها دروس الإنجليزية الذي كان "مستر وليم" يعطيها لي وشقيقي! وحين اكتشف أبي تلك "الجريمة" حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصام أبي كان يذوبُ بابتسامة.
كان أبي خفيفَ الظل. حين تشتري أمي فستانًا جديدًا وتسأله رأيَه؛ كان يقولُ ضاحكًا: “الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللي ورا السد!” وحين بدأ زملاء طفولتي يتنمّرون عليّ لأنني عسراءُ أو "شولة"؛ أي أكتبُ وآكل بيدي اليسرى، ويضحكون لأنني عاجزة عن الكتابة مثلهم باليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّني إلى صدري وقال: “هذا تميّز، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى. “آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندي، نيوتن، ماري كوري، داڤنشي، مايكل-آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وأعلنت منظمةُ Mensa، التي تضمُّ أذكياءَ العالم، أن معظمَ العُسر ذوو نسبة ذكاء مرتفعة.” ويقولُ العِلمُ إن چين LRRTM1 في المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم في نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر، رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. رحمك الله يا أبي الجميل وأحسن مُقامك في عِلّيين.
***