كرامةُ المعلّم… ة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 10:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في "كوريا الجنوبية"، يُنظَر إلى المعلّم بوصفه حجر الأساس في بناء الأمة، ويُعامل باحترام مجتمعي وإجلال، لأن التعليم هناك ليس خدمة، بل مشروع وطني. وفي "اليابان"، يُدرَّب الأطفالُ على الانحناء لمعلميهم قبل تعلّم الأبجدية. في جميع الدول التي وثبت علميًّا واقتصاديًّا، يُعامَل المعلّمُ بإجلال كونه "صانعَ مستقبل، وصانع حضارة". المعلّمُ هو أوّلُ ضابطٍ في جيش القيم. وأوّلُ قاضٍ في محكمة الضمير. وأوّلُ فنانٍ يرسمُ على لوحِ الطفولةِ ملامحَ الإنسان.
هكذا تربينا منذ طفولتنا على توقير المعلم. وكنتُ، وأنا طالبة في "هندسة عين شمس" ألتقي في الطريق مصادفةً بإحدى معلماتي في مدرستي الابتدائية القريبة من الحرم الجامعي. فأسرعُ بخطاي وأنحني لها، وأقبّل جبينها، ولولا الحياء لقبّلتُ يدَها. وأحيانًا يهاتفُني معلّمُ الرياضيات في مرحلتي الثانوية ليناقشني في أمرٍ ما، فإذا بادرني بكلمة: “أستاذة فاطمة"، أقاطعه فورًا: “لا من فضلك! غير مسموح بتبادل الأدوار. لا أستاذَ هنا سواك!”
وحدَه من علّمك الحرفَ والكلمةَ والمعادلةَ والحكمة والقيم والأخلاق، يمتلكُ مفتاح قلبك ويحقُّ له الدخولُ دون استئذان، فهو أحدُ الذين شكّلوا وعيَك لكي تتعرّفَ على العالم وتصيرَ مَن أنت عليه الآن. جميعُ مَن علّموني، لهم عليَّ دَينٌ لا ينقضي أجلُه، ولا يُستوفَى. ولذا، فإنّ أيَّ اعتداءٍ على "معلّمٍ"، وإن كنتُ لا أعرفه، هو طعنةٌ نجلاء في قلبي، وفي قلبِ الوطن. فالمعلم هو شرفُ الدولة، وكرامتُه مسألةُ أمن قومي. لأن العلمَ هو المِعولُ القادرُ على هدم الظلام والرجعية والخرافة، وهو صانعُ الرفاه. انظر حولك لترى تجلياتِ العلم وثمارَه في كل ما تقع عليه عيناك. لولا العلم ما قرأتَ كلماتي في جريدة صنع طابعتَها وأوراقَها العلمُ، بنظارةٍ صنع زجاجَها وقياساتِها العلمُ، وأنت جالسٌ على مقعدٍ صنعه العلم، في بنايةٍ صنعها العلمُ، ولا تنتهي الدائرة.
هذا المقال ليس "تحيةً" للمعلّم. فلم يحن بعدُ "اليومُ العالمي للمعلم" الذي يحلُّ يوم ٥ أكتوبر من كل عام. لكنه "اعتذارٌ" عن واقعة موجعة تخزُ القلبَ بشوكة الألم على وطن صنع أول حضارة في التاريخ تأسست على العلم وتوقير المعلم. في حضارتنا المصرية القديمة، احتلَّ المعلمُ مرتبة عالية في هرم السلطة الفكرية والسياسية. لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل حارسٌ لعقد الحضارة، حاملٌ مسؤولية صوغ القوانين، وحفظ الثقافة، وغرس القيم. لهذا لا يُقبَل أن يُهان معلمٌ في دولة أجلّت العلمَ مثل مصر. فما بالك حين تُهانُ "معلّمةٌ"؟! هنا تُضافُ إلى جريمة إهانة المعلم، جريمةُ إهانة المرأة، في دولة جعلت من المرأة ملكةً وربّة للفضيلة والعدالة والضمير، وجعلت لقانون الأخلاق الأول في التاريخ اسم امرأة: "ماعت"، ترى صورتها محفورة على جدران محاكم العالم: سيدة جميلة معصوبة العينين تحمل ميزان العدالة والضمير.
الواقعةُ مخيفة: التعدي على معلمة أثناء أداء دورها التربوي!! وممن؟ من وليّات الأمور! ربما ليست الواقعة الأولى من نوعها بكل أسف ومرارة، لكنها الواقعة الموثقة بفيديو صوت وصورة منتشر على صفحات سوشيال ميديا. المعلمة المحترمة رفضت السماح بالغش في لجنتها، فانقضت عليها أمهاتُ الطلاب وركضن خلفها يردن الفتك بها! ولولا تدخل الأمن لافترسنها! لن أسأل كيف سُمح للأمهات بدخول المدرسة أثناء الامتحان ولا كيف صعدن إلى فصول اللجان، فتلك أسئلة أمنية يباشرها التحقيق. لكن السؤال هو: كيف لأمهات فضليات يرجون لأبنائهن مستقبلا مشرقًا، وهنّ لا يحترمن مَن يقومون على العملية التعليمية التي تصقل عقول أبنائهن؟! شيء لا يُصدق! لكن الأكثر ألمًا هو أن تلك الأمهات "الغافلات"، لكيلا أستخدمُ لفظًا غيرَ مهذب، لم يكتفين بالمطاردة والملاحقة ومحاولة الاعتداء الجسدي على المعلمة، بل تعدين عليها باللفظ الجارح والسباب المهين، وأطلقن في وجهها لعنات طائفية تزدري دينها؛ كونها مسيحية!
المشهد ينتمي إلى مسرح العبث والكوميديا السوداء المخيفة. تعالوا نحلّله. المعلمة رفضت السماح بالغش. والغشُّ لعنةٌ تصيبُ مستقبل المجتمع في مقتل. فالطبيب الفاشل والمهندس الفاشل هما نتاجُ الغشّ. وفي أدبياتنا الإسلامية: “مَن غشّنا ليس منّا". وبناء عليه فهذه المعلمة يجب أن تُكرّم وتُمجد لأنها منعت آفة أخلاقية ومجتمعية وتربوية ودينية. لكنها لم تُكرم بل لوحقت يُرادُ النيلُ منها جسديًّا! وممن؟ من أمهات المفترض لهن أن يحرصن على تعليم أبنائهن وتهذيبهم!
جهات التحقيق تباشر الواقعة المشينة، وقيل إن المعلمة الفاضلة تنازلت عن الشكوى ربما لئلا تثير الفتن أو تجنبًّا لتداعيات سخيفة تهدد أمنها أو لأي سبب كان. لكننا نحن المجتمع المصري، لن نتنازل عن حقها وحق كل معلم شريف يبرّ بقسم الحفاظ على القيم، ونطالب بحق الكرامة العامة التي تُخدشُ لو مسَّ المعلمَ ما ينالُ من من كرامته. ومن جانبي أقبّلُ جبينَ تلك المعلمة الجميلة، وأعتذرُ لها.