رسالة إلى -مصر الخير-…. -المتوحّدون- وحيدون!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 12:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هاجسٌ ضاغطٌ لا يبرحُني ولا أبرحه: “ماذا سيفعلُ ابني "المتوحّدُ" حين أرحلُ عن هذا العالم، الذي لا يقبلُ "المُختلفين" عن نَسَقِه؟! كيف ييُكمِلُ "عمر" حياتَه وليس له شقيقةٌ ترعاه وترافقه في رحلة الحياة الشاقّة؛ مثلما أفعلُ أنا اليوم؟ وعبّرتُ عن قلقي هذا أدبيًا في قصائدَ عديدةٍ، وفي قصّة قصيرة عنوانها: "زيارةٌ واحدةٌ كلَّ شهر"، نشرتُها في زاويتي هذي بجريدة "المصري اليوم". ناجيتُ فيها اللهَ الأرحمَ علينا منّا.
هذا المقالُ رسالةُ احترام ورجاء، أوجهها إلى مؤسسة "مصر الخير" التي بدأت نشاطَها النبيل منذ عام ٢٠٠٧؛ كواحدة من أكبر مؤسسات المجتمع المدني في مصر، لتُكرِّسَ التمكين المستدام للفئات الأكثر احتياجًا، والمشاركة في بناء الإنسان في حقول: الصحة، التعليم، البحث العلمي، التكافل الإجتماعي ومناحي الحياة المختلفة، علي أمل القضاء علي البطالة، الأمية، الفقر والمرض، ليصل الإنسانُ إلي حالة الإبداع ثم الرفاهية.
قبل أيامٍ، سعدتُ بالمشاركة في ندوة لدعم "الغارمات" وتجفيف منابع الغُرم، نظمتها “مصر الخير” بأكاديمية الفنون. عُرض خلالها الفيلمُ التسجيلي: “فاطمة” للمخرج "مهند دياب”، الذي سلط الضوء على قصة فتاة تربّت في كنف أسرة بديلة، واجهت تحديات المجتمع بجسارة. وكان اللقاء حافلًا بحضور نوعي رفيع المستوى لشخصيات عامة من مجالات الفن والإعلام والثقافة والصحافة والمجتمع المدني، من المنخرطين في ملف "الغُرم" الذي يتسبب في سجن بسطاء أرهقهم العَوَزُ وأعجزهم عن تلبية حاجات الحياة. وفي كلمتي تمنيتُ على تلك المؤسسة النبيلة أن تُزيد من وعي المجتمع بأبناء “طيف التوحد" الذين يزدادُ عددُهم يومًا بعد يوم، يعيشون بيننا ويكادُ الوعي الجمعي لا يعرفُ عنهم شيئًا؛ فقط لأنهم "مختلفون" عن بقية البشر، فيرون ما لا نرى، وينظّمون العالمَ بأسلوبهم الخاص على غير ما نفعل، فيواجهون صعوبات هائلة في التواصل معنا، بل يزهدون أصلا في التواصل، مواصلين الحياةَ في عُزلتهم "متوحدين". لهذا يظلون في حاجة إلى من يُسيّر حياتهم بعد رحيل ذويهم.
الشهرُ الماضي، كنتُ في "أبو ظبي"، للمشاركة في "المؤتمر العالمي للتوحد" في دورته الثالثة، وقدمتُ ورقة علمية عملية عن تجربتي الخاصة مع ابني "عمر"، وتأثير التغذية على المتوحد. وشرحتُ البرنامج الغذائي الصارم الذي نفذتُه بدقة كما وضعه لي الكيميائي-الحيوي المصري-الكندي "رامز سعد" لتنقية الجسم من الجلوتين والكازيين والمعادن الثقيلة، وكيف انعكس هذا بالإيجاب على رغبة ابني في التواصل المجتمعي، بعدما كان نافرًا تمام النفور من التفاعل والانخراط. الرحلةُ مازالت طويلة جدًّا وشاقة، لكنني ملتزمةٌ بها حتى آخر يوم في عمري. حين حكيتُ تجربتي مع "عمر" أمام أ.د. “عفاف الأنصاري" رئيسة المؤتمر، والحضور النوعي من الأكاديميين والأطباء المتخصصين في "طيف التوحد" من مختلف دول العالم، أدركتُ لحظتَها أن الأمّ حين تحمل قلمًا لتكتب تجربتها، فإن الحبر لا يكون حبرًا، بل دمًا وشغفًا وخوفًا. وأن صوت الأم إذْ ينسابُ من الميكروفون ليحكي، فهو لا يطلب تعاطفًا، بل يُعلن مقاومة وصلابةً وإصرارًا على إتمام الرسالة. لكن تلك الرسالةَ لا تكتملُ للأسف مهما فعلتِ الأمُّ! فلا نجاةَ من طيف التوحد. ولا علاجَ له؛ لأنه ليس مرضًا بل اختلافٌ وخصوصية وتفرّدًا وانعدامُ انسجام مع الواقع. لهذا لم يعد أمامنا إلا التوعية المجتمعية بأبناء التوحد، لكي "يراهم" المجتمعُ ويتقّبل اختلافهم، ويرحب بهم، كما هم.
هنا، تومض في ذهني أسماءُ بعض الجهات التي اختارت أن تنتمي إلى المستقبل، لا إلى الورق. مؤسسة “مصر الخير”، مثلًا، ذلك الكيان النبيل الذي لا يقدّم “الخير” كصدقة، بل كحُقوق مؤجلة تُردُّ لأصحابها، خصوصًا أولئك الذين لا يعرفون كيف يطلبونها بل يزهدون فيها أصلا.
أعلم أن مؤسسة "مصر الخير" بدأت العام الماضي الاهتمام بملف "طيف التوحد"، لكنني أحلمُ بأن تُكثّف الوعيَ المجتمعي به؛ لكي يخفَّ التنمّرُ عليهم، وتخفُتَ الدهشةُ في عيون الناس كلما صادفوا متوحّدًا في حياتهم. أحلمُ بورش عمل تُعلّمُ المعلمين في المدارس كيف يلتقطون الإشارات الأولى لطيف التوحد. أحلم بأن نخلق حاضنات تدريب للأمهات، لنعيد لهن ما سلبه الخوفُ واليأس. أحلم بأن تحتضن الدولةُ أبناءنا المتوحدين بعد رحيلنا، وتوفّر لهم مرافقين ذوي نبالة ورحمة.
نحن، أمهات أبناء التوحّد، لا نطلب إلا تسليط الضوء على "طبيعة أبنائنا المختلفة" من أجل حفظ كرامتهم واحتضانهم؛ لا باعتبارهم مرضى، بل بوصفهم النسخة الأنقى من البشر. وشكرًا لمسلسل “حالة خاصة” بطولة الجميل “طه دسوقي” الذي أوضح التركيبة النفسية والذهنية الراقية للمتوحد، ونطمح في المزيد من هذي الأعمال المحترمة لكي يزيد الوعيُ بأبناء "طيف التوحد" الذين يعيشون بيننا ولا نكاد نراهم، لأنهم مثل الظلال الخفيفة؛ لا تبحثُ عن الضوء، بل عن العزلة والهدوء والهروب من الصخب.