مدارسُ الراهبات
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8339 - 2025 / 5 / 11 - 00:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
لماذا يتهافتُ الناسُ على مدارس الراهبات ومدارس الرهبان؟ وحين يواجهون قوائمَ الانتظار الطولي، وشروطَ الدخول العسِرة، تحول بينهم وبين رحابها، يلجأون للوساطة علّهم يظفرون بمقعدٍ لأطفالهم وطفلاتهم بين جدرانها؟ السبب هو أن تلك المدارس العريقة نجحت في تحقيق المعادلة العصيّة: “تعليم+أخلاق+رُقيّ".
ما إن تجتازَ قدماك بوابةَ إحدى مدارس الراهبات في مصر، فقد دخلتَ معبدًا للعلم، لا مجردَ صرحٍ تعليميّ. في حضرة تلك الجدران البيضاء الصموت، التي تعزفُ عن الضجيج والصخب، تُشرقُ المعرفةُ بأناقةٍ، وتُزهرُ التربيةُ بحُنوٍّ حازم، وتُروَى الأرواحُ بانضباطٍ يشبه الثكنات العسكرية. ليست مدارسُ الراهبات كغيرها. ثمّةُ فرقٌ شاسعٌ بين تدريس العلوم، وغرسها في تربةٍ مُهيأةٍ: بالنظام، والهدوء، والخلق الكريم. هناك، لا يُلقَّنُ التلميذُ، بل "يُصاغُ" كما تُصاغُ القصائدُ: بعنايةِ شاعرٍ يزنُ كلَّ كلمة، ويهندسُ كلَّ فاصلة.
في تلك المدارس، تجتمعُ أناقةُ الزيّ المدرسي وحُسن المظهر والنظافة، بانضباطٍ حاسم يغسلُ الوقتَ من الفوضى، مع حُنوّ الراهبات الصارم! وهل يجتمعُ "الحنوُّ" مع "الصرامة"؟! تلك معادلةٌ مستحيلة، لا يعرفُ سرَّها إلا الراهبات! ليس العِلمُ وحدهُ هو المُقدَّس بين جدران تلك الصروح التعليمية، بل السلوك، النظافة، الالتزام، الضمير، والحبّ. نعم، الحبّ؛ ذلك الذي يُسكَب في قلوبنا من عيون الراهبات وابتساماتهنّ، وحنانهنّ الذي يشبه دفءَ الأمهات.
في الصباح، يُعزف النشيدُ الوطني، ثم تُتلى القيمُ، في وقفةٍ روحيةٍ لا تُفرّق بين مسلمٍ ومسيحي. تتعلّمُ الطفلةُ أن تقولَ: “من فضلكِ” و”شكرًا”، وأن تحافظ على هندامها، وتكتبَ بخطٍّ مُنمَّق كأنما تطرّزُ بحروفها وشاحًا من الأناقة المعرفية. يتعلَّمُ التلاميذُ أن زملاءَهم في الفصل رفقاءُ حياة، لا خصومًا منافسين؛ فتتشكّل النواةُ المجتمعيةُ المصغّرة منذ البدء على نحو صحيّ سليم. فكل فردٍ في المجتمع هو صُنوٌ وسندٌ وملاذٌ، وليس "آخرَ" يُخشى جانبُه، بل صديقٌ يساهمُ معي في ارتقاء الوطن.
تنتشر مدارسُ الراهبات في ربوع مصر منذ أكثر من قرن ونصف القرن، من الإسكندرية إلى أعماق الصعيد، حاملةً على عاتقها رسالةَ التعليم والتهذيب، وتُديرها جمعياتٌ رهبانية فرنسية وإيطالية وألمانية ولبنانية، تركت بصمتَها المضيئة في ذاكرة أجيال متعاقبة من المصريين. من أشهرها “مدرسة نوتردام ديزابوتر” التي تعلّمت فيها والدتي، و”الفرير"، و"سان جوزيف”، و”القديسة آنا”، و”الراعي الصالح”، و”القلب المقدس"، و"الجيزويت"، وكذلك المدارس الإنجيلية مثل "رمسيس كولدج"، وغيرها من الأسماء اللامعة التي ساهمت في صنع تاريخ مصر. وأفخرُ أنني من بنات مدرسة CGC تلك المدرسة العريقة التي احتفلنا مؤخرًا بعيد ميلادها الـ110 في حفل حاشد حضره "قداسة البابا تواضروس الثاني"، وقال فيه إن خريجات هذه المدرسة “أميراتٌ” يُضئن المجتمع. في تلك المدرسة الجميلة تعلّمتُ القيمَ الرفيعة واحترام الشعائر الإسلامية، ولم نشعر يومًا بالتمييز الديني، فقد كان في رحاب المدرسة مسجدٌ صغيرٌ أنيق مزوّدٌ بالمصاحف والكتب، أمام الكنيسة المدرسية، في مشهد يجسّدُ أرقى معاني السماحة والمحبة.
مدارسُ الراهبات حضنٌ تربويٌّ وفضاءٌ تعليميٌّ يغرسُ في النفس قيم: التهذّب واحترام الآخر وحب الوطن وتقدير الوقت، وقدسيّةَ الكلمة. ولا يغيبُ الرافدُ الإنساني عن الرافد المعرفي في تلك المدارس. فإلى جانب الرحلات التثقيفية للمتاحف والمعالم الوطنية والعالمية، فإن زيارات دور الأيتام والمسنين جزءٌ أصيلٌ من النشاط المدرسي عطفًا على مشروعات التبرع والمساعدات المجتمعية، التي تغرس في الطفل قيمتيْ: الخير والتآزر. فتخرج الطفلةُ من تلك الجدران، وقد عرفت معنى أن تكون “مواطنة”، تعرفُ حقّها، وتؤدي واجبها، وتحتضن المختلف عنها بكل محبة.
لهذا، ليست مصادفةً أن كثيرًا من نُخب المجتمع، من مثقفين ومفكرين ووزراء وسفراءَ وقضاة، ورموز المجتمع في الفن والطب والهندسة والعلوم والإعلام، تخرجوا من تلك المدارس، حاملين أثرًا جليًّا من تلك الأناقة المعرفية، والتهذيب السلوكي، والذوق الرفيع. ولهذا، ليس مُستغربًا أن يسعى أعداءُ مصرَ الكارهون ازدهارَها إلى محاولات هدم وتشويه تلك الصروح العظيمة.
فلا شك أن مدارس الراهبات، منذ أشرقت مشاعلُها في مصر منتصف القرن 19، قد أعادت تعريف مفهوم العملية التعليمية على النحو الصحيّ. فلم تكتفِ بتلقين المعارف وحشو الأدمغة بالمعلومات، بل أتقنت "صياغة الإنسان". في فصولها، لا يُقاسُ النجاح بالدرجات وحسب، بل بمدى تهذُّب السلوك، ونقاء الروح، ورقيّ التعامل. هناك، يُمنح التلميذُ جناحين: جناح العقل، وجناح القلب، ليُحلّق بهما في فضاء الحياة. مدارسُ تُعلّمُك كيف تكون قدوة ونموذجًا يُشارُ إليه. لهذا ليس من العسير أن تميّز خريجي مدارس الرهبنة، بعد دقيقة من الحديث. فهي صوامعُ تُصاغُ فيها الشخصياتُ مثلما تُصاغ القطعُ الفنية الحيّة، ويُعاد فيها تشكيل العالم بأيدٍ صغيرة، تنبض بالحكمة، وتحملُ شعلتَها إلى المستقبل.
مدارسُ الراهبات، في مصر، تُشبه حديقة قديمة في منتصفِ صخبِ المدينة. لا تهتفُ، ولا ترفعُ صوتَها، لكنها تظلُّ المكانَ الأكثرُ أصالةً، حيث تتعلّم الأجيالُ كيف يكونُ الإنسانُ إنسانًا. شكرًا للراهبات الجميلات اللواتي أفنين أعمارهن لتخريج دفعاتٍ ودفعاتٍ من البشر الصالحين.
***