-فرير الخرنفش- … يستثمرون في الشمس


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 10:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
مثلما استثمروا في "شموس المعارف" على مدى يقاربُ القرنين، فأخرجوا أجيالاً من المثقفين والموهوبين صاروا رموزًا في المجتمع المصري وواجهة مشرقة لمصر في أنحاء العالم، يستثمرون اليوم في "الشمس الحقيقية" التي تنيرُ الكوكبَ وتصنع الحياة. في حفل جميل حاشد، افتتحت مدرسة "القديس يوسف- فرير الخرنفش" الأسبوع الماضي محطّةً لتوليد الطاقة الشمسية، فغدت تنهلُ من الشمس حوالي ٧٠٪ من احتياجها الكهربائي. وهذا الإنجاز الفريد لا يُعدُّ وحسب خطوةً على طريق التنمية المستدامة التي ينتهجها العالمُ المتحضّرُ، بل هو رسالةُ أمل ودرسٌ للأجيال القادمة يعزز فكرة أن المستقبل المشرق لا يُبنى إلا على العلم والعمل الجاد والإيمان بأن الطاقة النظيفة هو استثمارٌ في الحياة.
على مدى سبعة عشر عقدًا من الزمان، ظلّت مدرسة "فرير الخرنفش" التي تأسست عام ١٨٥٨ على يد رهبان الفرير في قلب القاهرة الفاطمية، منارةً للتعليم الجاد، وواحةً لغرس المبادئ النبيلة، وبناء الإنسان. واليوم، بإطلاق هذي المحطة الشمسية، تُضيف بعدًا جديدًا لهُويتها: بُعد الوعي البيئي والالتزام بالتنمية المستدامة، مؤكدةً التزامها بالريادة، ليس فقط في مجال التعليم، بل في المسؤولية المجتمعية.
وتأتي الشراكة مع السفارة الفرنسية في هذا المشروع الرائد لتكرّس الرؤية التربوية المؤمنة بأن المدرسة لا تقتصر على القاعة والكتاب، بل تتخطّاهما إلى الفعل والقدوة. لهذا لم يكن حضور سفارة فرنسا في هذا الحدث المصري حضورًا بروتوكوليًا وحسب، بل كان شهادة على احترام متبادل بين ثقافتين، ورغبة حقيقية في التعاون لبناء عالم أفضل، يبدأ من الطفل، ولا ينتهي عند قامات الدول، بل يمتدُّ إلى عاتق كل إنسان في هذا الكوكب.
سعدتُ بحضور هذه اللحظة الفريدة مع نخبة من الشخصيات العامة، على رأسهم السفير الفرنسي في القاهرة مسيو "إيريك شوفالييه"Eric Chevallier، بدعوة طيبة من مدير المدرسة فرير "سامح فاروق"، التربوي الرائد، الذي تواصلُ المدرسةُ تحت قيادته تقديم أرقى مستوى من التعليم الفرنسي في مصر، عبر بروتوكولات تعليمية مشتركة بين فرنسا ومصر، خرّجت أجيالاً مشرقة من الطلاب النابهين. ولإيمانه بالمسؤولية المجتمعية، اعتاد فرير سامح قيادة وفود من طلاب المدرسة لزيارة لمستشفى 57357 لدعم الأطفال مرضى السرطان، ليزرع في أبنائه نبتة الشعور الإنساني بالآخر، وهي من أهم أركان العلمية التعليمية والتربوية.
هذا الحفلُ كان في جوهره احتفالا بالإنسان، والخيار: بين أن يستهلك أو يُنتج، أن يُفسد أو يُصلح، أن يبقى متفرجًا أو يشارك في التغيير. لم يكن الحدث مجرد تدشين تقني لمجموعة من الألواح السوداء تلتقط نور الشمس، بل بيانٌ إنساني وأخلاقي، تُعلنه مؤسسة تعليمية عريقة اختارت أن تُربي أبناءها على القيم كما العلوم، وعلى الإيمان بالبيئة كما بالكتب. فالطاقة النظيفة ليست ترفًا، بل ضرورةٌ ومسؤولية، وحقٌّ أصيل للأجيال القادمة.
فرير الخرنفش لم تزرع ألواحًا شمسية، بل غرست وعيًا مثقفًا، وسلوكًا بيئيًا مستنيرًا، أتمنى أن يتجاوز جدران المدرسة ليطال المجتمع بأسره. ليت هذا اليوم يكون بداية لسلسلة من خطوات جريئة نحو مستقبل أخضر، نظيف، وعادل.
الطاقة الشمسية ليست وحسب بديلا للكهرباء، بل استعارة ناصعة عن الحياة: نقية، صامتة، سخية، ومتاحة للجميع. إنها "شراكةُ الطبيعة" في أبهى تجلياتها: لا فرق بين غني وفقير، بين قوي وضعيف. من شاء أن يمدّ يده نحو الشمس، فليأخذ منها قدر حاجته دون أن يُقصي أحدًا.
تلك الألواحُ الشمسية التي تولد الطاقة، ستولدُ أسئلة جديدة في أذهان الطلاب: ماذا بوسعنا أن نفعل أكثر؟ كيف نجعلُ مدرستنا أكثر خضرةً؟ ماذا لو زرعنا الأسطح، أو أعدنا تدوير الورق، أو نظمنا حملات توعية؟ وهكذا، تبدأ الثورةُ من سؤال صغير، ومن لوحٍ أسود يلتقط النور ليُضيء القلوبَ قبل المصابيح.
لقد آن للمدارس أن تخرج من دورها التقليدي، لتتحول إلى مختبرات للأفكار، ومعامل للوعي الجمعي. فكيف نربي طالبًا يُحب وطنه، إن لم نُعلّمه أن يحمي سماءه من التلوث، وماءه من الهدر، وشمسه من أن تُهدَر طاقاتُها في العدم؟!
مدرسة القديس يوسف- فرير الخرنفش، بهذا المشروع الرائد، لم تُنر فناءها فقط، بل أنارت لنا دربًا نأملُ أن تسيرَ فيه مدارسُ أخرى، في سائر ربوع مصر؛ لنعلم أبناءنا أن الشمس لا تُشرق من السماء فقط، بل من داخل عقولهم كذلك.
"إيريك شوفالييه" معروفٌ بتوجهه الإنساني في ملف إدارة الأزمات. وقبل توليه منصبه الحالي سفيرًا لفرنسا في القاهرة، دشّن مشروعًا لدعم أطفال الشوارع في مصر بداية التسعينيات الماضية؛ ما يعكس وعيه المبكر بالقضايا الإنسانية. بعد افتتاح وحدة الطاقة، وقبل نهاية الحفل، استأذن السفيرُ للمغادرة مبكرًا لارتباطه باجتماع يخصُّ "غزة" الجريحة، فقال له "فرير سامح" بالفرنسية: “خلّوا بالكم على أطفال غزة".

***