“صبحي- … فارسًا يكشفُ المستور


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 12:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
إذا كان "بريخت" قد نادى بهدم "الحائظ الرابع" في المسرح بين الممثل والجمهور، من أجل كسر وهم التمثيل وتحفيز وعي المُشاهد للضلوع في العمل وإشراكه فكريًّا ونفسيًّا في الدراما؛ لئلا يظل مجرد مشاهد سلبي، فإن مايسترو المسرح "محمد صبحي" يصرُّ على تحطيم الجُدُر التي نختبئ وراءها لنهرب من خطايانا؛ فتنفتحُ حوائطُ "المستور" وتصحو ضمائرُنا ونفيقُ من غفلتنا، استعدادًا لرحلة محاسبة النفس ثم التطهّر والتحرر من الآثام.
مازال "صبحي" الصوتَ المسرحي الأوحدَ القادرَ على إشعال الوعي دون ضجيج، على مدى تاريخه المسرحي الثري الذي لا يشبه إلا نفسَه. فـ “صبحي” الفنانُ هو ذاته “صبحي” المثقف المشغول بغرس القيم الرفيعة في مجتمعه، هو”صبحي” المصري المنغمس في قضايا وطنه وقضايا العروبة، هو “صبحي” السياسي الرافض لهيمنة معاول التغريب والاستلاب التي تمارسها الصهيونية والدولُ الاستعمارية، هو “صبحي” الإنسان والأب المشغول بتنشئة أطفاله على المبادئ والقيم. في رواية "الخلود" للفرنسي "ميلان كونديرا"، يدخل المؤلفُ روايتَه بشخصه لكي يُحوّلَ القارئَ من مستهلك للحكاية إلى شريك وضالع في التفكير والحل. لكن "صبحي" لا يدخل باسمه في العمل، بل بشخصيته الحقيقية الرافضة لكل عوارٍ وسقوطٍ وضِعة. فندخل مسرحَه ونخرج غير ما دخلنا، فقد أشهر في وجوهنا "مرآة ميدوزا" التي نشاهد عليها سقطاتنا؛ فنتبرأ من كل ما يُشوّه أرواحَنا ويهبط بمجتمعنا. المدهشُ أن "صبحي" يفعل هذا عبر الضحكة والابتسامة، لا عبر التجهم والعبوس. فلعلّه الوحيد القادر على جعلك تضحك وأنت تفكر، وتبتسم وأنت تعيد حساباتك، وتبتهج وأنت تحاكم نفسك! "الكوميديا حاملة الرسالة"، معادلةٌ صعبة لئلا أقول: مستحيلة. لهذا أُطلقُ عليه "مايسترو المسرح"، فهو ليس وحسب فنانًا موهوبًا عزّ نظيرُه، بل مخرجٌ وكاتبٌ مثقف وقائدُ أوركسترا مسرح، لا محلَّ للإخفاق في أعماله.
“فارس يكشف المستور"، في موسمها الثالث، ومازالت ترفع لافتة "كامل العدد"، ليست وحسب مسرحية كوميدية باذخة الجمال شأنَ جميع أعمال “محمد صبحي”، بل كشفٌ عميقٌ عن "المستور" فينا نحن، كمجتمعات ترقصُ على حافة الحقيقة، وتساعد الأعداءَ، دون قصد، على عدم سقوط الأقنعة عن وجوههم الشائهة.
نجح "صبحي" المرّةَ تلو المرّة، وعلى مدى الخمسين عامًا، في إعادة المسرح إلى وظيفته الأصلية: المنبر الحرّ الذي يصدمُ ويواسي، يُضحكُ ويجلد، يداعبُ العقلَ ويوقظُه، يرشقُ سهمَه في قلب الضمير عبر "كوميديا فارْس Farce" لا تتوقف فيها عن الضحك والتفكير.
"الفارسُ" في الوعي التاريخي، وفي الذاكرة البصرية، هو صوتُ الحق المنادي بيقظة الوعي في أزمنة التغييب والخنوع. هكذا يعود "هرمس" وقد وجد "جوادَه" ليُعيد على الأبناء والأحفاد سرد بنود "بروتوكولات حكماء صهيون" التي تتحقق يومًا بعد يوم بمساعدة أمريكا، وغفلتنا. لم يمتطِ الفارسُ جوادًا خياليًا ليطارد خيوط المؤامرة على الهُوية، بل ترجّل عن صهوة الأوهام ليحفر في أرض الجَد، باحثًا عن كنزٍ دفنه السلفُ وحصده العدو. الأحفادُ عليهم مواجهة المعركة القديمة ذاتها التي لم يُنهها الأجدادُ، لكنها هذي المرة ليست وحسب معركة السلاح والاحتلال، بل معركة القيم والانتماء، والانهيار الداخلي المنظم. هنا تتجلّى عبقرية "صبحي"، المايسترو الذي لا يعظ ولا يصرخ، بل يُضحكنا وهو يأخذ بأيدينا ليُجلسنا أمام مرآة الحقيقة، فنشخُص في صفحتها، ونتأمل وجوهَنا المتكسّرةَ على وجه الواقع المُر.
ليس في أدبيات المسرح العربي من يمرِّرُ الضحكةَ عبر العقل كما يفعل مسرحُ "صبحي”. الضحكُ عنده ليس ترفيهًا ولا انفعالًا مجانيًا، بل تمرينٌ على التفكير والمواجهة، ولونٌ من "التواطؤ المؤقت" مع الذات حتى تفيق. "مسرح صبحي"، مثل دراما "بابا ونيس"، يُضحكنا لكي نفكر، لا لننسى.
في عائلة "فارس"، تترامى الرموزُ: بين جَدّ يمثل الهُوية المنسية، وحفيد "فارس" يمثّل الضميرَ اليقظ، وزوجة تمثل مرآة المجتمع، وأطفال يمثلون الأمل. عبر تلك الرموز يُسلَّطً الضوء على اللعبة الأمريكية التي تُدارُ باحتراف في دعم إسرائيل لنخر البيت العربي من الداخل.
مسرحية "فارس يكشف المستور” كوميديا غنائية استعراضية، تُعرض على مسرح "مدينة سنبل"، من تأليف وإخراج وبطولة الفارس "محمد صبحي". شارك في كتابتها "أيمن فتيحة". ديكور "محمد الغرباوي"، أشعار "عبد الله حسن"، موسيقي "شريف حمدان". وبطولة الفنانين: "وفاء صادق"، "كمال عطية"، "رحاب حسين"، "أنجيلكا أيمن"، "ليلى فوزي"، "داليدا"، "مصطفى يوسف"، "محمد شوقي"، "منة طارق"، "داليا نبيل"، "حمدي السيد"، "مايكل ويليام"، "حلمي جلال"، "محمد عبدالمعطي"، "علاء فؤاد"، "جمال عبدالناصر"، "وليد هاني"، والأطفال: مريم، ريماس، لمار، بلال.
محمد صبحي لا يكتب مسرحًا، بل ينسجُ ضميرًا. لا يقدم عرضًا، بل يستنفر الوعي الجمعي ليصحو. في زمن تتناسل فيه المسارحُ الهزيلة، يظل "صبحي" الفارسَ والمايسترو الذي يجرؤ على كشف لا المستور وحسب، بل ما فينا من صمت.

***