لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 10:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هناك نوعٌ من الناس لا يحتمل رؤية الحبِّ يتنقّلُ في أرجاء الدنيا مثل عصفور حُرٍّ، يغردُ في زوايا الكلام، ويشرقُ في ابتسامات الوجوه، ويُربّتُ على الأرواح بجناحيه، فترقصُ القلوبُ فرحةً بالحياة، مُسبِّحةً بحمد خالق الحياة. هؤلاء لا يحتملون فكرة أن يُحبَّ الإنسانُ "جميعَ" البشرَ، بل جميعَ خلق الله؛ لأنهم أسرى كهوف القبلية، متشرنقون على ذواتهم، متقوقعون داخل ذواتهم. فمَن يحبُّني، لابد أن يكره مَن يختلفُ عنّي، فإن أحبَّه، فهو قطعًا يكرهني وهو عدوٌّ لي مبين! هكذا منطقهم!
قبل أيام، علّق على مقالي أحدُ روّاد صفحتي واسمه: أ. "مصطفى السيد" قائلا: “مع إنك بتتكلمي كتير عن الحب والعدل واحترام الآخر، للأسف باصادف ناس بيكرهوكي.… مش عارف ليه!”
وكان ردي عليه: “فيه ناس يا أ. مصطفى مش عاوزينك تحب كل الناس. فاهمين إنك عشان تحبهم، لازم تعلن إنك تكره غيرهم المختلف عنهم. مفهومهم عن الحب مشوّه.” نعم، البعض يرى الحبَّ طيفًا محدودَ الزوايا، ضيّقَ المخروط، لا يتسع إلّا لـ:”واحد ضدّ الآخر”، لا لحبٍّ شاسع فيّاض يتوزّع بعدالة على الجميع، كما تفعلُ الشمسُ مع الكائنات، وكما أحبّنا اللهُ جميعًا فأرسل إلينا نعماءه من شموس وأقمار وأنهار وعيون تبصر وقلوب تخفق وعقول تُبدع، وأرواح تحيا. أولئك المأزومون يظنون أن الحب موقف سياسي، أو بيان عدائي. يريدونك أن تحبهم بشرط أن تكره سواهم. وإن لم تفعل، فأنت "مُريب"، "منافق"، "بلا ولاء”! وأقول لهم: بل نحبُّ لأننا نسمو. نحبُّ لأن الحبَّ مقاومةٌ للفناء والعدمية والظلام. وسوف نظلُّ نحبُّ حتى لو كرهنا مَن لم يفهم أن الحب لا ينتقص، بل يُضيف.
ولم أكتفِ بإجابتي وعقدتُ على صفحتي جلسة "عصف ذهني"، كما أفعلُ أحيانًا مع القضايا الإشكالية والوجودية التي لا تضيء إلا بمشاعل العقول. وضعتُ تعليق أ. مصطفى سكرين شوت، وفتحتُ باب التأمل، فجائتني مئات الإجابات المضيئة بالفكر الرصين والفلسفة العميقة، أقتطفُ لكم بعضها مع أسماء كاتبيها.
- د. فاتن محمود: “كراهيةُ انتشار الحب، سببها أنه ضدُّ مصالح من يريد انتشار الكراهية… فالمحبة اتحادٌ وتكامل، وذاك ضد مصالح الكثيرين.”
- نسمة محمد الروبي: "ممكن حد يكره حد لأنه مش قادر يحب زيه، ولا قادر يشوف جمال ربنا في كل مخلوقاته.”
- لويس مجدي: "فيه ناس فاكرة إنك لازم تحبها وتهاجم خصومها عشان تثبت حبك… عقليات مشوهة.”
- هاني أبو سميح: “صديق قال لي مرة: أنا أتعبد إلى الله بكرهك! ومع ذلك لا أحمل له إلا الحب.”
- مينا السبع: “بعض الناس مرضى بالكراهية، يريدون الجميع مثلهم حتى لا يبدو أحد أفضل منهم.”
- مينا شكري: “الكاره يعاني من نقص محبة منذ الطفولة، فيرى حب الآخرين تهديدًا ينبغي مقاومته.”
- إيناس فهد: “لا نكره من ينادي بالحب إلا إذا كانت نفوسنا ضعيفة والحب فيها مختزل.”
- جمال نصر عبد النور: “فاهمين المحبة غلط: يظنوها خضوعًا أو تنازلًا عن الكرامة.”
- شرف موسى سعودي: “فاقد الشيء لا يعطيه. لا مكان للحب في قلوبهم.”
- مارسيا جمال: “اللي ميحبش لا يعرف الله، لأن الله محبة.”
- موريس غالي: “الناس تمشي بمبدأ: حبيب عدوي عدوي.”
- إنجي أنور: “الحب الحقيقي هو أن أحب حتى من يسيء إليّ، وإلا فماذا صنعت؟”
- إيناس سعد إسحق: “منذ بدء الخليقة يكره الإنسان الاختلاف. وكأن الاختلاف جريمة.”
ولولا ضيق المساحة لوضعتُ المزيد من إشراقات القراء.
ولكن هل حقًّا نكره من يُحب؟ أم نكره من يُذكّرنا بما فقدناه؟ تذكّرتُ الآن كتاب One-Dimensional Man “الإنسان ذو البُعد الواحد”، للألماني "هربرت ماركيوز" حين وصف الضمورَ الإنساني الذي يُفقدُ الإنسانَ تعددية التفكير ويحصر وعيه في إطار ضيق ذي بعد واحد. هذا الضامرُ لا يرى الواقعَ كما هو شاسعًا رحبًا، بل ضيقًا كما قزّمته مرايا مَن استلبوا عقله. غير قادر على التفكير خارج الإطار، وبالتالي يرى في حب الجميع خللاً في النظام، وتهديدًا للوجود. هذا النمط الشائه من البشر مطيعون مُطبّعون مبرمجون على استهلاك الأفكار كما تُستهلك السلع. لا يرون الحبَّ شعورًا دافئًا، بل تشويشًا على موجات النظام، وخطأ مطبعيًّا في كتاب الطاعة، وبالتالي لابد من كراهية مَن ينادون به.
حين نكره من يُحب، فذلك لأن في داخلنا جزءًا ما زال يئنُّ من عجز قديم، أو خوف دفين، أو سوطٍ لم تُشفَ جروحه. أما القادر على الحبّ، وسط ضجيج الكراهية والفرز والانغلاق، فكأنّما يقول للعالم: “أنا أقاوم بحب جميع الطيبين في هذا العالم.” دعونا نعيد اكتشافَ الحبّ، لا كترف، بل كنجاة.

***