مع الكُرد العظماء …. في عيدهم


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 12:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
من لم يحظَ بصداقة أو معرفة أو حتى لقاء شخص كرديّ، فقد خسر الكثير. “الكُرد" من أرقى وأجمل وأصفى البشر، وأكثرهم ثقافةً ورهافةً، وأشدّهم استبسالاً في الدفاع عن الهُوية والحرية والكرامة. وأشكرُ اللهَ أن مَنَّ عليَّ بأصدقاءٍ كرد؛ صادقتُهم بعدما صادفتُهم في مهرجاناتٍ أدبية وشعرية ومؤتمراتٍ فكرية عديدة، سواءً في مختلف بلاد العالم، أو في: "دَهوك"، "السليمانية"، و"أربيل" عاصمة إقليم "كردستان" العراقية، أحد "مواطنهم" الأصلية. أقولُها بمرارة: "أوطانهم"، وليس "وطنهم"!! فمن عجائب الأقدار أن "الوطنَ" أعزُّ كنزٍ لدى الإنسان، لكن ذاك "الكنز" إذا تعدَّد وصار "أوطانًا"، كانت الفاجعة! ليس كلُّ كنزٍ يُعدَّدُ، فبعضُ الكنوز قيمتُها في فرادتها. "الابنُ" أغلى النِعَم، فإن تعدّدَ الأبناءُ باعتدال تعددتِ النِعمُ، لكنّ "الأمَّ" واحدةٌ، و"الأبَ" واحدٌ؛ لا تعُّدد فيهما. كذلك "الوطن". فما بالك بشعب عظيم مُشتّتٌ بين أربعة أوطان، في "العراق"، "سوريا"، "تركيا"، و"إيران"، يطمحون إلى وارفةِ وطنٍ واحدٍ وأرضٍ واحدة! ذاقوا ما ذاقوا من ويلاتٍ وإباداتٍ جماعية وسَبْي نساءٍ وطغيان، لكنهم أبدًا لم ينكسروا ولم يهِنوا، ولم تنجح مراراتُ الظلم أن تُبدِّل نفوسهم الطيبة أو تُعتِم أرواحَهم الشفافة، وأخفقت يدُ الطغيان السوداءُ في إجبارهم على التخلّي عن هويتهم ولُغتهم وأصالتهم، بل زادهم الظُلمُ قوّةً وبأسًا حتى سجّل لهم التاريخُ شرف انتصاراتهم على "داعش" السوداء في معاركَ استثنائية باسلة في "كوباني"، "سنجار"، "الرقّة"، و"الباغوز"، نجحوا في تحريرها من قبضة داعش الدموية، مثلما أسهمت البيشمركة الكردية الباسلة مع القوات العراقية والحشد الشعبي العراقي في تحرير "الموصل". نساءُ الكرد، اللواتي يمتزن بالجمال الفائق، لم يركنَّ إلى خبيئات الخدور ويتركنَّ المعارك للرجال، بل كوّنَّ عام ٢٠١٣ قوةً عسكرية نسائية في شمال سوريا لمجابهة داعش، أطلقن عليها اسم YPJ وتعني بالكردية "وحدات حماية المرأة"، شكّلت صدمةً إيديولوجية هائلة لتنظيم داعش الذي استهان بالمرأة ولم يرَها إلا طرائدَ وفرائس للقنص والسَّبي والاسترقاق، وكان لهذا الجيش النسائي العظيم دورٌ مشهود في دحر داعش. فبرغم الشتات بين الأوطان وتباين الرؤى السياسية بين الأحزاب الكردية، توحدت القواتُ الكردية في القتال ضد عدو مشترك، ما عزّز بسالتهم في الميدان وحقق انتصارهم التاريخي على تنظيم الشر. واجه الأكرادُ داعش بجسارة، مدركين أن المعركة ليست مجرد حرب عسكرية، بل صراعٌ من أجل البقاء والهوية والكرامة والحرية.
ليس ثمة جُرحٌ أشدُّ نزفًا من وطنٍ يسكن القلبَ بينما أقدامُ أبنائه معلّقةٌ في التيهِ. هكذا هم الكُردُ، أبناءُ الجبالِ الشاهقة، وأحفادُ الثوراتِ التي لم تعرفْ للنهاياتِ طريقًا. شعبٌ كُتبَ عليه أن يكونَ طائرًا حُرًّا بجناحٍ مكسور، يحملُ ذاكرةَ الفقدِ والمنفى، ويبحثُ في جغرافيا العالمِ عن اسمِه المُغَيَّب قسرًا.
لا أنسى وقوفي أمام مقابر الإبادة الجماعية في مدينتَيْ السليمانية وحلبجة في إقليم "كردستان"، حيث أُذيبت أجسادُ المدنيين الكُرد بالكيماوي الحارق في حملة "الأنفال" البغيضة، التي تُعدُّ واحدةً من أبشع وأشنع فصول الإبادة الجماعية في التاريخ، ولا يزال تأثيرها محفورًا حتى اليوم في ذاكرة الشعب الكردي العظيم، وفي ذاكرة جميع شرفاء هذا العالم المرزوء بالظلم والويلات. فطوبى للرحماء لأنهم يُرحَمون، والويلُ كلُّ الويل للطغاة الظالمين. فلم يُحرِّمُ اللهُ تعالى شيئًا على جلال نفسه إلا "الظلم"، حين قال في الحديث القدسي: “يا عِبادي، إنّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا.”
والحقُّ أنني لو تكلمتُ عن مدى احترامي وحبي للعِرق الكردي، لن تكفيني مياه البحر مِدادًا، ولا أوراق الدنيا صِحافًا. ولأنني أستسلمُ لقلمي وأخضع له، فقد سار هذا المقال على عكس ما كان له أن يسير! فقد انتويتُ كتابته لأهنئ أصدقائي الكُرد برأس السنة الكردية الجديدة رقم ٢٦٣٣ التي بدأت أول أمس ٢١ مارس مع عيد "النوروز" الكردي. وكلمة "نەورۆز" تعني بالكردية: "اليوم الجديد"؛ فيُعدُّ العيدُ رمزًا لانتصار النور على الظلام، والإشراق على العتمة، والحقّ على الباطل. بدعوة كريمة من الدكتور "ياسين رؤوف" السياسي الكردي البارز ورئيس مكتب الاتحاد الوطني الكردستاني في القاهرة، احتفلنا بعيدهم في حديقة الجريون. وعبر مقالي هذا أرسلُ ببطاقات تهنئة لجميع أصدقائي الشعراء والأدباء الكُرد في العالم: د. “خالدة خليل"، “حسن سليفاني"، "دياري فريدون"، “عبد الكريم الزيباري”، "دلشاد عبد الله"، "آلان عبد الله"، "أزاد دارتاش"، "عبد الله طاهر البرزنجي"، "جنار نامق"، "عبد الكريم الكيلاني"، "دلشاد كويستاني"، "ليان الجباري"، وغيرهم المئات ممن يسكنون قلبي، مثلما تسكن كتبُهم مكتبتي.
سينتصرُ الخيرُ على الشر، والجمالُ على القبح، وسوف تنجو الحياةُ من الموت. ويبقى العِرقُ الكردي المثقف الذي تعرض طوال تاريخه إلى صنوف العذابات والإبادة الجماعية والإذابة بالكيماوي. ستنجو كردستان بشعبها المثقف الذي احتضن بين ربوعه جميع الأعراق، وتحابّ وتسامح مع جميع العقائد. هابي نوروز.
***