مدرستي الجميلة CGC ... ١١٠ عامًا من المجد (٢)


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8262 - 2025 / 2 / 23 - 10:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


بعد نشر مقالي الأول عن مدرستي الجميلة يوم الاثنين الماضي بزاويتي هنا، غمرني الفرحُ بمهاتفة صديقتي المشرقة، الفنانة "إيفا"، لتُخبرني بأنها أيضًا خريجةُ هذه المدرسة العريقة، عطفًا على الشهيرات اللواتي ذكرتهن في مقالي السابق واللواتي ذُكرن في الكتاب التوثيقي المهم الصادر عن المدرسة. مصدرُ الفرح ليس فقط معرفتي بأن رابطًا جديدًا يربط بيني وبين صديقةٍ أعتزُّ بها، بل لأن تلك المعلومة أكدت لي تميّزَ مدرستي وخريجاتها. فالفنانة "إيفا"، فضلاً عن تميّزها كفنانة دراما ومسرح، لكنها أيضًا من العقليات الفريدة شديدة الثقافة في مجتمعنا. قارئةٌ نهِمة، باحثةٌ عن المعرفة، ولا تترك أمرًا إلا وحللته وناقشته، وعلى مدى السنوات، بيننا العديدُ من المناقشات الثرية حول تحديات مصر الصعبة مع أعدائها المتربصين، من الخارج ومن الداخل.
خلال احتفال مدرستي "كلية البنات القبطية" CGC الأسبوع الماضي بعيد ميلادها رقم ١١٠ عامًا، وبعدما قدّمت الطالباتُ عروضًا فنيّة جميلة، من بينها أغنية: "أنتِ أميرة"، علّق قداسةُ البابا تواضروس، ضيف شرف الحفل، بقوله: “بالفعل طالبات هذه المدرسة العريقة أميراتٌ"، فبادرتُه بقولي: “والخريجاتُ كذلك يا قداسة البابا!!”، فالتفت نحوي وقال بابتسامته البشوش: “خريجاتُ المدرسة أصبحن ملكات...”، وقال كذلك إن "النجاح" يرتكز على أربعة أعمدة رئيسة: النظام-الجدية-الإيمان-الحب. وحين نجمع الحروف الأولى من تلك الكلمات: نظام+جدية+إيمان+حب، تتكون لدينا كلمة: “نجاح".
في مقالي السابق حدثتكم عن يومي الأول بالمدرسة، وعن معلماتي اللواتي كنَّ بالنسبة لي قدوة رائعة، وعن واقعة محددة حدثت في طفولتي جعلتني أؤمن أن المعلمة كائنٌ خرافي" من أساطير الحكايا الإغريقية، ما جعلني أتمنى أن أغدو معلمةً حينما أكبر. ووعدتكم بأن أقصَّ عليكم تلك الواقعة اليوم.
كنتُ في الفصل في عامي الأول بالمدرسة، وقد طلبت إلينا "ميس راشيل" أن نكتب "إملاءً"، بعض الكلمات الإنجليزية التي تعلمناها في الحصة السابقة. وراحت تمرُّ بين الطاولات تنظر إلى ما نكتب. وفجأة توقفت إلى جوار الديسك الخاص بي، ولم تتحرك! رفعتُ نظري نحوها فوجدتها تنظر إلى كراستي باهتمام شديد. بدأ قلبي يخفقُ في هلع وقد تيقنتُ أنني أُخطئ في الكتابة! وكلما رفعتُ عيني إليها في تساؤل صامت عن خطأي، أومأت لي بعينيها لأنظر في الكراسة وأكمل الكتابة. مرت الدقائقُ ثقالا كأنها الدهر. وفجأة طُرق بابُ الفصل ودخلت "ميس عايدة" معلّمة العربي لتستعير قطعةَ طباشير من فصلنا. هتفت "ميس راشيل": (تعالي شوفي يا عايدة!) ثم اشارت إلى كراستي وأردفت: (البنت دي "شولة"، ومع كده خطها جنان! اسم الله عليها!)، فردّت عليها "ميس عايدة": (فعلا، وخطها حلو في العربي كمان! وشاطرة!) ثم ربّتا كلتاهما على رأسي الصغير في حنوٍّ ومحبة. دعكَ من المحبة، ومن الإطراء. دعكَ من "الخطِّ الحلو" في العربي والإنجليزي! فما حدث هو أنني حرفيًّا صُعِقت من هذا الحوار القصير بين المعلمتين! كيف عرفت "ميس راشيل" أنني "شولة"!!!!! هذا سرٌّ عائلي غير مُعلن! طبعًا في عمري الصغير ذاك، لم أكن أعرف أن كل من يراني يكتشف فورًا أنني "شولة"، "عسراء"، أي أستخدمُ يدي اليسرى في الكتابة والأكل وكل شيء. كنتُ أعتقد آنذاك أن "شولة" هذه مرضٌ سريّ أصابني، ولا تعرفه إلا أمي وأبي والطبيب وبعض الأقرباء والأصدقاء ممن تبثُّ لهم أمي همومَها. فقد كنتُ أسمعُها تهمسُ لصديقاتها في حسرة: ("فافي" شولة للأسف!! وحاولت معها كتير تكتب وتاكل باليمين! بس مفيش فايدة! والدكتور قالي متحاوليش عشان فصّ المخ الأيمن عندها هو المتحكم في أدائها الحركي، عكس الناس العاديين حيث يحكمهم فصُّ الدماغ الأيسر!) "فافي" بالطبع هي أنا. ولكن، فكيف عرفت "ميس راشيل" هذا السرَّ العائلي الخطير؟! يومها ركضتُ لأمي وأنا مبهورة الأنفاس وهتفتُ بأعلى صوتي: (ماما… ميس "راشيل" بتعرف كل حاجة في الدووونيا! وعرفت كمان السر. أنا عاوزة أبقى مُدرّسة زيها عشان أعرف كل حاجة من غير ما حد يقولي!) فسألتني أمي: (ميس "راشيل" عرفت إيه؟ سر إيه؟) فهمست لها وأنا أتلفت حولي كمن يوشك أن يقول سرًّا خطيرًا: (عرفت إني "شولة”. والمصحف يا ماما أنا مقولتلهاش. هي عرفت لوحدها!!!!). وانفجرت أمي بالضحك، وصارت تلك الواقعةُ حديثَ العائلة لسنوات طوال. ولكن تلك الواقعة العابرة، أكدت رغبتي العارمة في أن أغدو"مُعلّمة" ذات يوم، لكي أعرف ما يَخفى على الناس من معارف. وأما ماذا صنع بي حُلمي القديم بأن أكون معلّمة حين أكبر مثل "ميس راشيل"، فهذا أمرٌ جلل، حيث تحولتُ إلى "لصةٍ" خطيرة من أجل الوصول إلى ذلك الحلم الصعب. وهذا ما سأقصُّه عليكم ربما في مقالات قادمة. كُّل عام ومدرستي في أعلى العُلا، وكل معلّم جاد وصالح في المكانة العليا التي يستحقها، فالمعلم الصالحُ بالفعل "كاد أن يكون رسولا".

***