“دقّة قديمة-… عزفٌ على أوتار الهُويّة المصرية
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 11:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في القرن الرابع قبل الميلاد، زار مصرَ الفيلسوفُ الإغريقي "أفلاطون" طلبًا للحكمة والمعرفة. في بلادنا تعمّق الفيلسوفُ الأشهر في دراسة الرياضيات والهندسة والفلك، واطّلع على أفكار قدامى المصريين حول فكرة الدولة والنظام السياسي. عزّزت تلك الزيارةُ أفكارَه حول "المدينة الفاضلة" التي تجلّت في كتابه الأشهَر "الجمهورية". وخلال تلك الرحلة التي قاربت السنوات الثلاث، كان يُنصت إلى الموسيقى التي أبدعتها القريحةُ المصرية الفذّة، فأطلق مقولته الشهيرة: “علّموا أولادكم الفنون، ثم أغلقوا السجون"، قالها لشعب "أثينا" بمجرد عودته إلى وطنه اليونان القديمة. فقد آمن الفيلسوفُ بوجود علاقة وثقى بين رقي الفن، وانخفاض مستوى الجريمة. فالعلاقة بين الفن والجريمة علاقةٌ عكسية، تكاد تكون خصامًا بائنًا.
في قلب القاهرة، حيث تتعانق الأصالةُ مع الحداثة، تنبض مبادرةٌ جميلة، اسمها: “إحنا ولادك يا مصر”، أفخر باختياري شاهدةً عليها وعرّابةً لها. مبادرةٌ مثقفةٌ واعية مجدولةٌ بخيوط الفن والوطنية، لتُجسّد حلمًا مصريًا أصيلًا في تحويل الإبداع إلى أداة للتغيير المجتمعي. هذه المبادرة هي الحصانُ الأسود لأكاديمية “إيتا للمواهب والفنون”، التي أسسها المحامي الفنان "رامي تُرك" عام ٢٠١٥، ككيان رسمي، ليغدو مِنصَّةً لتعليم الموسيقى والرسم والتمثيل والرياضة، وتُطلق المسابقات المحكّمة لاكتشاف المواهب الشابة في فضاء حيّ من الحرية والإبداع. لم تكتفِ الأكاديمية بالأنشطة التعليمية، بل توسّعت بأنشطتها المجتمعية المجانية، لتُطلق حملات الإبداع داخل المدارس، ومنها برنامج “نبتة فن” لاكتشاف مواهب الأطفال ودعمها، بالإضافة إلى مسابقات “إيتا ستار” في الغناء والتمثيل، التي تستقطب مئات المشاركين من مختلف الأعمار والمستويات.
تمثّل هذه المبادرة شجرةً خضراءَ وارفةً، من أجمل أغصانها فريق “دقة قديمة”، الذي يصبو لإحياء التراث الموسيقي المصري بأسلوب حداثي من أجل استعادة الذائقة المصرية الرفيعة. تأسس الفريق عام ٢٠١٩ بقيادة المايسترو "أمير وليد"، ويضم مجموعة من العازفين والمطربين جمعهم الشغفُ بالموسيقى الكلاسيكية والفن الأصيل الذي لا يخبو بريقُه، بل يزداد توهجًا كلما مرّ الزمان. يُقدّم الفريق حفلات موسيقية تُعيد إحياء أغاني الزمن الجميل، من أعمال "أم كلثوم" و"عبد الوهاب" و"عبد الحليم" و"وردة" و"فريد" و"رشدي" وغيرهم، مستخدمين آلات تقليدية مثل العود والكمان والناي والقانون، في تناغم ساحر يُحاكي روح الماضي ويُلامس وجدان الحاضر.
حتى اليوم، قدّم الفريقُ خمس حفلات موسيقية. الأولى كانت تجريبية في مقر الأكاديمية، والثانية في نادي الأرمن بشبرا، والثالثة على مسرح كلية رمسيس للبنات، والرابعة داخل نادي الزمالك، والخامسة مؤخرًا كانت في نفس مسرح رمسيس، وكان المسرح حاشدًا بالحضور، وتشرّفتُ بإلقاء كلمة في الحفل. تقدّم الحفلات أغنيات الزمن الجميل لتُنعش الذاكرة الجمعية للمصريين وتُعيد ربط الأجيال الجديدة بجذورهم الثقافية الأصيلة.
تسعى مبادرة “إحنا ولادك يا مصر” إلى استخدام الفنون كوسيلة لإحداث تغيير إيجابي في المجتمع. فمن خلال تنظيم فعاليات فنية ورياضية ومسابقات في مختلف محافظات مصر، تهدف المبادرة إلى تسليط الضوء على قضايا اجتماعية متنوعة؛ سواء إيجابيات ينبغي تعزيزُها أو سلبيات تستوجب المواجهة والعلاج. يُشارك الفنانون والرياضيون في هذه الفعاليات برسائل توعوية تنبع من وجدان المجتمع نفسه، وتُحفز على التغيير الإيجابي من الداخل.
ولا تنحصر رسالة المبادرة في الأداء الحي فحسب، بل تشمل مشروعًا طموحًا لإحياء الذاكرة الفنية المصرية. فقد بدأ الفريق فعليًا في إعادة إنتاج ١٠٠ أغنية قديمة غير معروفة، إلى جانب ١٠٠ موشح إسلامي من التواشيح النادرة، ١٠٠ ترنيمة من التراث القبطي، من أجل التأكيد على أن الفنَّ مظلّة حاضنة نستظل بها من عواصف التطرف والفرقة. هذا الجهد الوطني-الفني المتكامل يسعى لبعث الأصالة، بروح معاصرة لأجيال عطشى للجمال الحقيقي.
تُخطط المبادرة لتوسيع نطاقها لتشمل جميع محافظات مصر، مع هيكل تنظيمي يضم لجانًا فرعية في كل محافظة، تحت إشراف الأمانة العامة في القاهرة. وتسعى لإشراك المجتمع المحلي، بتوفير الدعم المعنوي والمادي واللوجستي، بما يضمن استدامة الأنشطة وتحقيق الأثر المنشود على المدى البعيد.
تحية احترام لصديقي "رامي ترك"، نموذجًا رفيعًا للمثقف الفنان المُلتزم بقضايا مجتمعه. فبرغم خلفيته القانونية، دفعه شغفُه بالفن إلى تأسيس “إيتا أكاديمي”، وإطلاق مبادرة “إحنا ولادك يا مصر”، وتشكيل فريق "دّقة قديمة" لإحياء التراث المصري الغنائي، حاملا راية الفن الهادف، ومؤمنًا بأن الجمال النابع من أصالة الفن الرفيع يمكن أن يكون أداة فاعلة لإصلاح المجتمع. “إحنا ولادك يا مصر” ليست مجرد مبادرة فنية، بل هي نداء وجداني يحمل في طياته حلمًا مصريًا بمستقبل أجمل. عبر الفنون، تُعيد تعريف الوطنية، وتُحوّل الغناء والعزف والتمثيل إلى جسور تواصل بين الإنسان ووطنه، وبين الماضي والحاضر. إنها دعوة لأن نحب مصر بطريقة جديدة: عبر الفن والقوى الناعمة.
***