-سميحة أيوب- … عِناقٌ أخير


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 11:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

عانقتْ نجلي "عُمر" في "دار الأوبر المصرية"، ثم عانقتني وهمستْ في أذني: “فين عمر؟!"، فظننتُ أن الزحامَ حولها جعلها لا تنتبه لوجوده. أشرتُ إليه وقلتُ: “عمر أهو!” فأشرقتْ ابتسامتُها وقالت: “منا عارفة…. فين بقى عمر؟! وديتي الواد فين؟!” هنا فطنتُ إلى دعابتها الأنيقة. كانت تقصد أن ابني فقد الكثير من الوزن عن آخر لقاء جمعنا بها. فضحكتُ وقلتُ: “أنا زي أيّ أمّ أصيلة... باجوّع عيالي!” فضغطت على يديّ وهمستْ: “كفاية كده… الولد بقى ممتاز وجسمه رياضي كفاية تجويع… يا عمر… كُلْ ولا يهمك!” ثم حضنتني من جديد وقالت لي: “برافو عليكي عملتي معجزة، عمر بقى يتفاعل مع الناس تمام… شاطرة!” ولم أدرِ يومَها أنه العناقُ الأخير الذي تغمرني به بحنوِّها الهادر، قبل أن تتركنا وتمضي.
رحلتِ الجميلةُ إلى حيث يرحل الرائعون ليسكبوا جمالَهم أمام عرش الرحمن، علّ زهرةً جديدةً تنمو في فردوس الله. أغمضت “سيدة المسرح العربي” عينيها، وأُسدل الستارُ على فصل أخير من فصول فنٍ رفيعٍ، وموهبةٍ أصيلة، وصوتٍ ما زال يرنُّ صداه في ذاكرة خشبات المسرح العربي. "سميحة أيوب" لم تكن مجرد فنانة قديرة وموسوعة ثقافية؛ بل كانت أيقونةً فنية وفكرية تُمثّلُ جيلاً مشبَّعًا بالوعي والأصالة، بالصلابة والوهج، في زمنٍ غنيٍّ كانت فيه الفنونُ مرآةً صادقة للمجتمع، وصوتَه الأصدق، ومُحفّزه النشط للتغير نحو الأفضل.
حين كتبتُ عنها من قبل، لم أكن أكتب عن فنانة عظيمة تؤدي دورًا ثم تغادر الخشبة، بل عن امرأة تحمل المسرح في وريدها، وتحمل الوطن في قلبها، وتُجيد أن تكون أمًّا للفن كما كانت أمًّا للأمل، وقِبلةً للحالمين بعالم يكسوه الجمال. لم تخُن يومًا مكانتَها الرفيعة ولم تَهُن. لم تسِفّ يومًا حين حان زمنُ الإسفاف كما فعل كثيرون مُواكبةً للسائد الهابط. لم تتنازل عن علوّ قامةٍ صنعتها بالحفر في الصخر، وبالوقوف كما النخيل، الذي لا ينحني للرياح مهما عتت. حتى حين خرجت عن مألوفها وأدّت فيلمًا كوميديًّا "تيتا رهيبة"، أضحكتنا بشموخها وعزّتها، فطفرتِ الكوميديا من كبرياءٍ أرستقراطيّ يواجه فوضى الانفتاح.
لم يكن ما وهبته "سميحة أيوب" من عُمرها المديد للمسرح محضَ مسيرة شاقّة وجادّة، بل كان جهادًا ناعمًا وأنيقًا في وجه القبح، ومقاومة ثقافية صلبة في وجه الغياب والتيه. كانت تدركُ أن الفنَّ ليس زينةً ولا ترفًا، بل فعلُ بقاء، وأن العروضَ المسرحية ليست للفرجة، بل للإنقاذ. قالت مرة: “أنا لا أؤدي الدور، أنا أعيشُه.” وربما كانت تلك جملتها المفتاحية للحياة كلها. عاشت كل شيء بـ "كُلِّها”. لم تكن ممثلة في الحياة. بل كانت "هي”.
"سميحة أيوب" ابنةُ الزمن الثقيل الذي لم يُهدِ النساءَ إلا القليل. لكنها نحتت لنفسها مكانةً بأظافر الإرادة والموهبة، لتُغدو أول امرأة تدير "المسرح القومي" في تاريخ مصر، وأول من أعطى لكلمة “الريادة” معنًى خارج مِظلّة الذكورة والسلطة. لم تعرف "الانحناءَ" إلا احترامًا للجمهور حين ينسدلُ الستارُ الأحمر، أو حين تمسح دمعة يأس على وجه أحد المبدعين المهمَّشين. كانت عزيزة نفس، نبيلة المواقف، عظيمةً عند الضيق.
ولأن الفن مرآةُ الروح، كانت أدوارُها كاشفةً لداخلها: مزيج من الاحتراق النبيل واليقين بأن الفن يُطهِّر العالمَ من خطاياه. هل ننسى “الإنسان الطيب من سيتشوان” تأليف "بريخت"، حين صرخت "سميحة أيوب": "ألا أن عالمَكم مستحيلٌ بكلِّ ما فيه من ناقصاتٍ وتعجيز. ذراعٌ تُمدُّ للجائعين تُعضُّ وتُنهشُ من فورها. ومَن يمنحُ العونَ للضائعين. يضيعُ بدورِه. ومَن ذا الذي يستطيعُ التروّي، وكبحَ جماحِ الغضبْ، وبالقربِ منه يموتُ الجياع؟!".
في السنوات الأخيرة، لم يُقعدها الكِبَرُ عن الحضور. كانت تجلس على كرسيّها العالي تنظر للزمن بعين مَن تحدّت قسوته، وتمسّكت ببهائه، وظلت وفيةً للحلم رغم انطفاء القناديل.
وحين أكتب هذا النعي، لا أكتب تأبينًا لشخصية فريدة، بل لحقبة ثرية من جيل العمالقة انطفأت بالأمس إحدى شموعه. ذهبت السيدة النبيلة، وتركت فينا تيهًا جميلًا، وحنينًا أنيقًا، وألمًا عذبًا كالخشوع. لا عزاء لنا إلا في أن الأثرَ لا يموت. وأن من علَّمت أجيالًا أن الفن حياة، وأن الصدقَ على الخشبة نُبلٌ، ستظل حاضرةً في وجدان هذا الوطن مهما تبدلت الوجوه وتغيّرت اللهجات. وأقدّمُ عزائي لصديقتها الجميلة الفنانة "مديحة حمدي".
نامي مطمئنةً يا أمّي المشرقة، فالدورُ الذي أديتِه في الحياة كان أعمق وأجمل من كل العروض. ستذكرُك القاهرةُ في برد يناير وهجير أغسطس، وستحكي عنك المسارحُ كلما اهتزّ ستار وُقرعت خشبةٌ، وستذكرك طالبات الفنون المسرحية كلما ارتعدن أمام دورٍ صعبٍ، وتذكّرن أن امرأة سبقت، وفتحت الباب، ومهّدت الطريق. وداعًا، يا زهرة مصر التي لا تعرفُ الذبول: “سميحة أيوب”.