ألا في الفتنةِ سقطوا (٢)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8269 - 2025 / 3 / 2 - 09:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ألا في الفتنةِ سقطوا (٢)
Facebook: @NaootOfficial
في مقالي الأول حول هذا الكتاب الثري "ألا في الفتنة سقطوا"، للمفكر المستشار د. "محمد الدمرداش العقالي"، المنشور في زاويتي هنا بجريدة "المصري اليوم" بتاريخ ٦ فبراير، تحدثتُ عن التاريخ بوصفه مرآةً للمستقبل. فالأحداثُ الصعبة قد تُعيد إنتاج أوجاعها إن لم نتعلم من دروسها. هذا ما يكشفه الكتابُ الذي استعرض بالتحليل العميق نشوء الفتنة الأولى في الإسلام، بدءًا من “حرقوص بن زهير” وانتهاءً باغتيال "الإمام عليّ" رضي الله عنه، مُسلطًا الضوءَ على دور الخوارج في تشويه رسالة الدين الحنيف، بادعاء التقوى. بأسلوب روائيّ موثّق، يحلل "العقالي" كيف تحوّلت شعاراتُ العدل إلى أدوات تكفير وإقصاء، مشيرًا إلى إعادة إنتاج تلك الفتن بأقنعة حداثية. فالكتاب ليس مجرد شهادة تاريخية، بل تحذيرٌ للحاضر والمستقبل، ينبهنا إلى أن الفتن لا تموت، بل تنتظر لحظةَ غفلةٍ نكرر فيها أخطاء الماضي، حتى تُبرز أنيابَها من جديد. يتناول الكتابُ الجميلُ الفترة التاريخية الحساسة التي أعقبت وفاة الرسول ﷺ، والأحداثَ التي أدت إلى ظهور الخوارج ورفعهم لشعار “لا حكم إلا لله”، وكيف تحول هذا الشعار المشرق من كلمة حقٍّ إلى أداة للباطل وإثارة الفتن. ووعدتكم أن أتكلم في مقالي اليوم عن الأسلوب الشيّق الذي بُني عليه الكتابُ.
يتبع الدكتور المستشار "محمد الدمرداش العقالي" أسلوبًا يجمع بين التحليل التاريخي العميق والسرد الأدبي المتماسك، ما جعل الكتابَ أقربَ إلى رواية تاريخية توثيقية، منه إلى دراسة أكاديمية جافة، ما ييسّر دخولها للقلب والعقل في آن. فالكتابُ لا يقتصرُ على استعراض الأحداث التاريخية كما وردت في المصادر التقليدية، بل يُعيدُ صياغتَها بأسلوب حواري تفاعليّ حيّ، يجعل القارئ عائشًا في قلب الحدث، يسمع صليلَ السيوف في المعارك، ويتأملُ وجوه الصحابة المتألمين من تمزق الأمّة بين العدل من جهة، والطموح السياسي من أخرى.
اعتمد "العقالي" السردَ المشهدي، حيث صوّر الأحداث وكأنها مشاهدُ سينمائية متتابعة، ما يخلق جوًا من التوتّر الدراميّ الذي يجعل القارئ متفاعلا مع الشخصيات والأحداث، لا محضَ مُتلقٍّ لمعلوماتٍ تاريخية. فحين يتحدث عن معركة "صفين" التي انتهت برفع المصاحف على أسنّة الرماح وشقّ الصفّ، أو حين يرسم بالكلمات الحزينة لحظة اغتيال "الإمام علي"، لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يصف الانفعالات، ويرسم ملامح الوجوه الموجوعة ويحلل الحوارات التي دارت في الكواليس، فيمزج بين الوثيقة والتخييل الأدبي، مما يمنح النص روحًا إنسانية نابضة بالحياة والشجن.
يُعيد الكتابُ بناء الشخوص في تاريخنا الإسلامي بوصفها شخصيات روائية معقدة، لا مجرد رموز جامدة نسمعُ عنها في كتب التاريخ. فالإمام الشهيد "عليٌّ بن أبي طالب" رضي الله عنه وأرضاه، على صفحات الكتاب، ليس وحسب الخليفة الرابع، بل هو رجل صالحٌ آلمه الصراعُ الناشب بين "حلم العدالة" و"واقع السياسة القاسي”. و"الخوارج" ليسوا مجرد متمردين منشقّين، بل أشخاصٌ مُضلَّلون، تجمعهم العاطفة الدينية، لكنهم ينزلقون إلى العنف بسبب فهمهم المغلوط للنصوص.
يمتاز الأسلوبُ الروائي في الكتاب بكثافة الحوارات الجدلية، التي تعكس صراع الأفكار بين الشخصيات المختلفة على اختلاف ثقافاتهم ومعاجمهم وطرائق تعبيرهم؛ ما يُدخل القارئ في عمق الجدل الفقهي الفلسفي والسياسي الذي دار بين "عليٍّ" و"معاوية" و"الخوارج”. تلك الحوارات ليست مجرد نقل للمقولات كما حفظناها، بل بنية درامية أدبية للحظات التوتر الفكري، ما يُضفي على السردية التاريخية بُعدًا فلسفيًا جذابًّا، يجعل القارئ متورطًا في النقاش، كما لو كان شاهدًا حقيقيًا على الحدث.
جمع المستشار "محمد الدمرداش العقالي" في كتابه هذا، شأنَ جميع كتبه، بين اللغة الفصحى الجزلة، التي تليق بمقام النص التاريخي الرصين، وبين الأسلوب الأدبي الرهيف، الذي يُضفي لمسةً شاعرية على بعض المشاهد الخشنة، فينقلها من صلافة الواقع السياسي إلى عذوبة الروح الطامحة للسلام والعدالة. ويتوسّل أحيانًا التوازي والإيقاع الموسيقي في العبارات، مما يجعل النصَّ أقرب إلى الملاحم الكلاسيكية، حيث تمتزج الحقيقة بالتراجيديا. فالشاهدُ أن أهم ما يميّز أسلوب "العقالي"، تجنبه الجفاف الأكاديمي المعهود، ما يجعل المعلومات التاريخية تنسابُ بين السطور، عبر أسلوب قصصي جزلٍ ومؤثر. ولعلّ ما يميز الكتابَ كذلك هو تقديمه للأحداث من وجهات نظر متعددة؛ فلا ينحازُ إلى رواية واحدة، بل يُبرز تباينات الروايات التاريخية، ويطرح تساؤلات مفتوحة حول بعض المسائل الجدلية. وهذا الأسلوب الموضوعي في تعاطي التاريخ، يجعل القارئ شريكًا في إعادة التفكير في الماضي، لا مجرد متلقٍّ سلبيٍّ وخامل للمعرفة.
تحيةَ احترام لقلمٍ رفيع يمزج التوثيقَ بالأدب الحكائي، والتحليل بالدراما، ليعيد إحياء الماضي بأسلوب نابض بالحياة. هذا الكتاب ليس تأريخًا لما كان، بل رحلة أدبية ماضوية مستقبلية، تعلمنا أن الفتن، قديمًا وحديثًا، ليست حروبًا بين السيوف، بل صراعٌ بين الأفكار، وامتحانٌ للأخلاق، لا يسقط فيه إلا من لم يفهم دروس التاريخ.
***