مايسترو -الضمير- … في صالوني


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8265 - 2025 / 2 / 26 - 11:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
بعد توقّف سنواتٍ، عاد صالوني الثقافي للنور في "أروم"، وهو مكان جميل في حي "مصر الجديدة"، يضمُّ قاعات مخصصة للدارسين والباحثين. بدأ صالوني عام ٢٠١٥، وتوقف أواخر ٢٠١٩ مع جائحة كورونا. كان الفنان "سمير الإسكندراني" رحمه الله، الأبَ الروحي للصالون، حيث كنا نناقشُ كلَّ شهر موضوعًا مختلفًا، بحضور شخصيات عامة. آخر حلقات الصالون القديم في أغسطس ٢٠١٩، كان “سيكولوجية الأخلاق"، بحضور ضيف الشرف البروفيسور "أحمد عكاشة". وبعد ستة أعوام من الصمت، استمددتُ حماسي لاستعادته من حماس المهندسة "مورا ذكري"، مديرة "أروم". واخترتُ أن تكون عودةُ الصالون بموضوع "الضمير"؛ أرقى ما يمتلكُ الإنسان. استضفتُ للمناقشة: العميد د. "نانسي السيوفي"، التي تحدثت عن: آليات الضمير، والقاضي د. “آدم صالح "، الذي ناقش: "القانون قاضيًا". أما أنا فتحدثتُ عن "الضمير" بوصفه "صوتَ الله في أعماقنا"، والرسالة الخاصة التي يُرفقها سبحانه مع كل كائن حي منذ ميلاده لتُهذّب كودَه الأخلاقي.
تحدثتُ عن أقدم صكّ أخلاقي في التاريخ: قانون "ماعت" المصري، الذي يحوي ٨٤ مبدأً أخلاقيًّا، يحفظ النظامَ في مجتمع كريم يسكنه كرماءُ. نصفها اعترافات إيجابية: “كنتُ عينًا للأعمى- ساقًا للكسيح- يدًا للمشلول- أبًا لليتيم"، وأخرى إنكارية: “لم أكذب- لم أظلم- لم أتسبب في دموع إنسان- لم أعذّب حيوانًا- لم أكن وقحًا …
ثم قصصتُ حكاية عجيبة حدثت معي، تؤكد هيمنة الضمير، وخضوعنا له. حين أصبتُ في الجامعة بحالة غريبة فقدتُ فيها السيطرة على عنقي. رأسي يدور نحو اليسار دون إرادة مني! أُعيده للأمام بيدي، فيعود للدوران! حدث ذلك في محاضرة الإنشاء المعماري، فحدجني المُحاضِر د. "هشام الألفي" بنظرة عتاب تحولت إلى غضب، وهو يظنُّ أنني أشاغب في محاضرته، فأطرقتُ بعيني خجلا، وأمسكتُ رأسي بعنف كيلا يتحرك، فانفجر الطلابُ ضحكًا، وشاعت الفوضى، وعنّفني الأستاذُ، فبكيتُ، وركضتُ إلى البيت منهارةً؛ لأخبر أمي بأنني لن أذهب للجامعة بعد اليوم. فلا طاقة لي بيوم عسِرٍ آخر بعنق أصابه الجنون. دارت بي أمي دورة واسعة على الأطباء من جميع التخصصات:العظام، الأوعية الدموية، الأعصاب، الروماتويد… والجميع يؤكد أن كلَّ شيء على ما يرام، والأغربُ أنني لا أشعرُ بأي ألم في عنقي، لكنني فقدت السيطرة عليه. أشارت مربيتي على أمي بأن تعمل لي "زارًا"، ربما " لبسني جّن"! فأخذتني أمي المثقفةُ إلى أ.د. "عادل صادق"، أستاذ الطبّ النفسي الشهير.
جلستُ أمامه صامتةً مهزومةً، أنظرُ يسارًا، حيث لوحة سوريالية لحصان يركض. جلس الطبيبُ إلى يساري حيث موضع عنقي "الملووح"، وراح يلاطفني ويمازحني، حتى اطمئننتُ، وشرع يدردش معي في أمور عامة حول الطقس والثقافة والأدب وذكريات طفولتي والحيوانات الأليفة التي أُربيّها وذكرياتي معها. وفجأةً تذكّرتُ واقعةً وقعت قبل عام، فقصصتُها؛ وما كنت أدري أن في تذكّرها "علاجي”. كنتُ عائدةً من الكلية، ووضعتُ قدمي دون قصد على قطيطة ترضع من أمها أمام باب شقتنا. أصابني الهلعُ من صوت موائها الموجوع، فحملتُها إلى جارنا البيطار “د. اسطفانوس"، وقدمت له ضحيتي وأنا أصرخ باكيةً: (انقذْها يا أنكل من فضلك!) فهدّأني وطمأنني وربط جبيرةً حول عنقها النحيل وأعطاها حقنة مسكنة للألم، واستضفتُها مع أمّها وأشقائها في بيتي حتى شُفيت تمامًا، وكبرت القطة وملأت الدنيا مواءً وشقاوة. ونسيتُ الأمرَ.
نسيتُ الأمرَ "بعقلي الواعي"، لكن "عقلي الباطن" لم ينسها. هذا ما أخبرني به د. "عادل صادق”. ظلّ مشهدُ القطة الوليدة ملوية العنق يؤرق عقلي الباطن subconscious mind ويعذّبه. فلم يجد الضميرُ (الأنا العُليا) حلاًّ سوى "القصاص" بنفس جنس الجريمة. فأصدر أوامره لعنقي بأن يلتوي كما لويتُ عنقَ القطة. هذا ما يسميه الطب النفسي self-punishment أو العقاب الذاتي الذي به يحدثُ التطهّرُ والبراءُ من الخطايا.
خلقنا اللهُ تعالى على نحو شديد التعقيد. كلُّ إنسان دولةٌ كاملة لها مؤسساتٌ سيادية ثلاث: تشريعية، قضائية، تنفيذية. في حالتي: شرّع المُشرّعُ (الضمير) أن تعذيب الحيوان جُرمٌ يستوجبُ العقاب. وحكم القضاءُ (اللاوعي) على شخصي "المتهَم" بعقاب من جنس الجريمة. وطبقت الحكمَ السلطةُ التنفيذية (أوامرُ المخ)؛ بإرسال نبضات كهربية، للجسد (المتهم). واستجاب المجرمُ (جسدي) للحكم، فالتوى عنقي حاملا رأسي الذي لم يدرِ كلَّ هذا، لكنه انصاع للحكم صاغرًا. نقل الطبيبُ الحكاية المنسية من عقلي الباطن إلى الواعي، فأدرك "ضميري" أنني أصلحتُ خطأي، فسقطَ العقابُ، وشُفي عنقي.
الضميرُ هو المايسترو الذي يقود أوركسترا سلوك الإنسان، فتخرج الجملةُ الموسيقية متناغمة؛ فإن غابَ؛ بدا النشازُ الأخلاقي. هنا يبرزُ "القانون" ليُصلحَ الفوضى. فالقانونُ هو حافظُ الحدّ الأدنى للأخلاق، بينما "الضميرُ" هو ضامنُ حدّه الأعلى. وإلى صالوني القادم بإذن الله، في السبت الأخير من مارس.
***