“مش روميو وجولييت-… التحليقُ بالفنِّ
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 11:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليست كلُّ العروض المسرحية تُشاهَد، بعضها يُعاشُ، ويعيشُ ليُروى ويَخلُد. بعضُها يختطفك، فلا تعودُ مُشاهِدًا يجلس ليتلقّى، بل تتورّط إذ تجد روحَك قد صعدت إلى الخشبة واندمجت مع طاقم العمل، تتنفّس آلامَهم وتعيشُ صراعاتِهم وأحلامَهم. مسرحية "مش روميو وجولييت"، التي شهدنا ليلتَها الأخيرة لهذا الموسم، رقم ١٢٠، خلف ستارة "المسرح القومي" العريق، نجحت في التحليق بنا في سماوات الدهشة والإبهار. تجربةٌ فنية ثرية تنبض بالحياة، تخزُّ القلبَ والعقل معًا، وتُلقي بك في أتون السؤال. ولا يكون الفنُّ فنًّا إن لم يجعلك تمورُ بالسؤال: "هل نحن على ما يُرام؟"
في هذا العمل، لن ترى نسخة معدّلة من تراجيديا شكسبير الشهيرة، بل مرآة تعكس مجتمعنا المصريَّ: قديمَه وحاضره؟ هل علونا عن ماضينا؟ أم تخلّف حاضرُنا عن أمسِنا؟ الفنُّ الرفيعُ إذ يُحلِّقُ في سماوات الاكتمال، حين تجتمع في بِنيته الرسالةُ المجتمعية النبيلة، إلى جوار الإتقان الفني. المضمونُ المحترم إذا صيْغَ في شكل رفيع، تكتمل المعادلة الصعبة وتحقق الجمالُ العصيُّ. المسرح الغنائي الاستعراضي في أوج اكتماله حين تشدو حنجرةُ "علي الحجار" الاستثنائية، مع الصوت الأوبرالي "أميرة أحمد"، مع الأداء الرائع لـ "رانيا فريد شوقي"، و"ميدو عادل" و"يوسف إسماعيل"، مع الصياغة الشعرية الماسّة لـ "أمين حداد"، وموسيقى "أحمد شعتوت"، واستعراضات "شيرين حجازي"، وديكور "محمد الغرباوي"، وإضاءة "ياسر شعلان"، مع عصا مايسترو الإخراج المسرحي "عصام السيد"، فأنت أمام عرض وُلِد ليعيش ألف عام. أما الصغارُ المدهشون، تلاميذ المدرسة الثانوية التي تدور حولها الحدوتة، فكانوا من البراعة وامتلاك ناصية الفن والاستعراض، بحيث يستحقون الإشادة اسمًا اسمًا، وموهبةً موهبة.
"مش روميو وجولييت” ليست إسقاطًا مصريًّا على قصة شكسبيرية تُعالج الصراع بين عائلتين متنافرتين يقفُ الثأرُ بينهما حائطًا صلبًا، بل هي صياغة جذرية تنبض بروح مصر، حين كانت قبل نصف القرن مجتمعًا مثاليًّا متماسكًا لا يعرفُ التمييز الديني في علاقات الجيرة والصداقة كأسرة واحدة لا تعرف الشقاق، قبل أن يدبَّ في خصرها، مع نهايات السبعينيات، نصلُ الشتات؛ لندخل في كارثية الشقاق العقدي والتمييز الطائفي. هذا حي "شبرا" العريق الذي كان أسرة واحدة لا تميز بين المسلم والمسيحي، حيث تتشابك الأديان والثقافات في نسيج متناغم يصعب فصله، قبل أن تدبَّ في أرضنا الطيبة قدمُ الانقسامات الاجتماعية الثقيلة، لتحفر هوّة عميقة لا قرار لها. حكاية صداقة نظيفة تجمع بين المعلّمة المسلمة، والمعلّم المسيحي يتزاملان في مدرسة ثانوية، بعدما تزاملا جيرانَ في الحي الطيب، يتقاسمان اللعبة واللقمة ومقاعد المدرسة طفلين في أسرتين جمعت بينهما الجيرةُ والعشرة والمحبة. الصغارُ في المدرسة الثانوية يتعالى همسُهم حول تلك العلاقة "المشبوهة" التي تربطُ المسلمة بالمسيحي، ولو في إطار الصداقة النقيّة! وتتحوّل براءةُ الصِّبية الصغار إلى عيون جارحة وألسن حادة تتنابذ وتغتاب وتغتال أدبيًّا ومعنويا: “إحنا ملايين العينين، موجودين عَ الناحيتين، بنراقبهم مهْما عملوا، مهْما راحوا فين.”!!! هنا يعّبر "أمين حداد" بعبقرية عن مجتمع لم يعد يتكاتف ليبني ويتعاون لينهض، بل صار عُصبةً من "البصاصين" يخترقون حيوات الناس ليمزقوا أستارهم ويفتشوا عن عوراتهم، فإن لم يصادفوا عوراتٍ تُلاك، اخترعوها وصدقوها وأذاعوها زورًا وكذبًا، ثم شيدوا المذابحَ والمقاصل لينحروا الأبرياء قرابين لأهوائهم المريضة. الصياغة الشعرية للعمل جاءت نابضة بالحياة، تكاملت فيها التراجيديا المجتمعية مع لمسات من الكوميديا اللطيفة التي أكملت خيطَ اللؤلؤ. كل كلمة رُصِّعت في مكانها بعناية لتُكمل اللحن المسرحي، فما كانت الشخصيات تتحدث، بل تُغني حتى في صمتها، وكانت الموسيقى شريكًا مثاليًا، لا مجرد خلفية موسيقية، تحمل كلمات الحكاية، فلا تسمعها بإذنيك، بل تخترق روحك لتجعل السؤال داخلك يتمرد ويصرخ.
“مدرسة الوحدة"، واسمُها يحملُ الدلالة، هي صورة مصغّرة للمجتمع المصري الذي نجح المغرضون في شقِّ صفه عقديًّا، فعرف التناحرات الطائفية التي كانت قبل عقود نكتةً تُحكى لنضحك، لتصير مع الوقت واقعًا مُرًّا ينحرُ في جسد مصر المنهك. ثم يجيء الناظرُ المثقف ليئد الصراعَ بإشراك الطلاب في مسرحية "روميو جولييت"، فيتعاون الطلابُ ويعرفون أن المحبةَ طوقُ النجاة. ثم كان يجب إضافة لفظة: "مِش"، لكي تُسرَّبُ رسالةً تقول إن علاقة الحب بين المسلمة والمسيحي محكومةٌ بالفشل جالبةٌ الشقاء على الأهل؛ فما جدوى حب يُخلِّف التعاسة ويُخالف الشرع؟! “مش" روميو وجولييت" بل صداقة وأخوّة غير قابلة للفصم، مثلما مجتمعنا المصري المنشود الذي مرّت به الأهوالُ ومحاولاتُ الهدم؛ لكنه عافر وكافح لكي يصمد في وجه أعداء الوطن، جسدًا واحدًا سليمًا عفيًّا، بمسلميه ومسيحييه، لا يعرفُ الشقاق ولا التمييز. تلك هي الرسالة التي قدمتها المسرحية بعبقرية لا مثيل لها. شكرًا للفن الرفيع، وشكرًا لفرقة المسرح القومي وللفنان الدكتور "أيمن الشيوي" مدير المسرح القومي العريق.