الكراهية رصاصة مرتدة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7747 - 2023 / 9 / 27 - 12:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لأنني أمٌّ لصبيّ جميل مصاب بـ"طيف التوحد"، فقد اشتركت في صفحات وجروبات خاصة بالمتوحدين، تتبادل فيها الأمهاتُ تجاربهن مع أطفالهن. بالأمس قرأتُ "بوست" لأمٍّ غاضبة تحكي عن سائق تاكسي قال لابنها: “يا حيوان!"، ثم فرّ دون أن تقتصَّ منه، وتسأل: كيف يمكنها أن تأخذ حق ابنها؟ وتفاوتت التعليقاتُ ما بين الغاضبة والمُحسبنة والداعية على السائق بالهلاك، وأخرى تدعو الأمَّ للغفران وتجاوز الغضب. وكالعادة حين أصطدمُ بمثل هذه المحن، أهربُ إلى منطقة اطمئناني الخاصة، فأجدُ سلواي في "الحب"، لإيماني بأن غيابه هو أصلُ جميع شرور العالم، دون استثناء. هو "القانون" الذي غرسه أبي في طفولتي، ويزداد إيماني بصحته يومًا بعد يوم. أسمّيه "قانونًا"؛ وليس مجرد "نظرية" أو "فكرة"، لأن له مئات الأدلة الثبوتِية التي كوّنتُها عبر تجاربي وقراءاتي، حوّلت النظريةَ والملاحظة، إلى قانون صارم. تأمل فكرة: “جميع شرور العالم سببها غياب الحب”، ثم حاول تطبيقها على كل ما مرّ بك من شرور؛ سواء في حياتك الواقعية أو فيلم شاهدته أو حكاية سمعتها. على الأغلب ستُقرُّ معي بأن غياب الكنز الثمين الذي اسمه "الحب" هو سبب أزمات البشرية، بما فيها الفقر والمرض والظلم والطائفية والإرهاب والحروب وحتى الجوائح والكوارث التي صنعها الإنسانُ حين أغفل عن حبّ الإنسان والطبيعة وركض وراء مصالحه الصغيرة. علينا أن نحذرَ غيابَ الحب من حياتنا؛ لأن هذا الغياب سوف يعقُبه غيابُ "الحق والخير والجمال" من الحياة، ثم لا يتبقى بعد ذلك إلا غياب "الحياة"؛ ذاتِها.
فإن قبضتَ على نفسك مُتلبّسًا بالكراهية، اعلمْ أنك في خطر. مصدرُ الخطر ليس "مَن تكره”، إنما الخطرُ قادمٌ منك "أنت"، متوجهٌ صوبكَ "أنت”. فالبُغضُ رصاصةٌ مُرتدّة، ترتدُّ صوب قلبك، قبل أن تصل إلى خصمك. أنت اليوم تمثّلُ خطرًا داهمًا على نفسك! ففضلا عن أن الكراهية تُدمّرُ سلامك النفسي وتسبب خللا في هرمونات جسمك وتقتل هرمون السعادة داخلك، وتجعلك ترى كل شيء من خلال غلالة سوداء من الحزن والغضب وعدم الرضا، إلا أنك كذلك مستعدٌ لارتكاب جميع الخطايا التي عرفها الإنسان لتغذية الوحش الساكن داخلك ولا يشبع: “البغضاء”. لا تستثنِ أية خطيئة عن خيالك. لو توفرت لديك أدواتُ أية جريمة؛ فسوف تأتيها. أنت فقط رهن توفُّر ظروف مناسبة لارتكاب الخطايا. غيابُ الحب عن قلبك، جعلك عبدًا أسيرًا للوحش الذي احتلّ روحك، تعيش عمرك كلّه لتغذيه ولا يشبع، وترضيه ولا يرضى.
حاولتُ اختبار جميع خطايا البشر، فتحقّقت المعادلة دون استثناء. فحين تقتلُ؛ فلأنك لم تحب. وحين تظلم فلأنكَ لم تحبّ. وحين تكره؛ فلأنك أخفقتَ أن تحب. وحين تسطو على حقوق ذويك؛ فلأنك لم تُحب. وحين تكون أنانيًّا أو عنصريًّا أو طائفيًّا، فبالقطع قلبُك قد غاب عنه الحب.
“ظاهرة الحب لدى الإنسان" كان عنوان أحد صالوناتي الشهرية التي توقفت مع جائحة كورونا. واخترنا، أنا والفنان المتصوف الجميل "سمير الإسكندراني"، الأب الروحي للصالون، "أم الغلابة" نموذجًا للحب لمناقشة حياتها. هي السيدة التي أحبّت دون شرط ودون انتظار مقابل. لأن مَن أحبتهم لا يملكون أصلا ما يقدمونه لها، لا ماديًّا ولا حتى معنويًّا. فهم أفقرُ وأغلب وأشقى من أن يقدموا أي شيء مما يقدمه الناسُ للناس. أحبت مرضى "الجذام" الذين يفرُّ الناسُ منهم خشيةَ العدوى، لهذا يعزلونهم في منافٍ وجزر بعيدة حتى يموتوا وحيدين في صمت. احتضنتهم وحملت أطفالهم مقروحي الأبدان. قبّلتهم غير عابئة بالميكروب الخطير الذي يفتك بالجسد. حوّلت معبدًا هنديًّا يسمى معبد "كالي"، وهو إله الموت والدمار عند الهندوس، إلى دار لرعاية المصابين بأمراض لا شفاء منها، حتى يتمتعوا بالحب والرعاية في أيامهم الأخيرة. أنشأت مئات من دور الأيتام، جعلتهم يشعرون فيها كم هم محبوبون ذوو كرامة. وارتدت طوال حياتها ثوبًا بسيطًا أبيض اللون مثل الساري الهندي، له إطار أزرق عند الكُمّين. وجعلت الراهبات القائمات على تلك الدور يرتدين مثلما ترتدي، لكي يتعرف المحتاجون عليهن بسهولة، فيطلبون منهن المساعدة. إنها الراهبة الألبانية الجميلة "الأم تريزا”. أم الفقراء والمجذومين واليتامى. ولدت عام ١٩١٠، ورحلت عن عالمنا عام ١٩٩٧، بعدما نالت جائزة نوبل للسلام عام ١٩٧٩. عاشت تحاربُ عدوًّا واحدا اسمه: "مرض نقص الحب". ولم تعترف بين كل ما نالت من ألقاب؛ إلا بلقب واحد هو: “أم الغلابة". لأن الغلابة هم أقربُ البشر إلى الله. النقية البتول، أحببتكِ دون أن أراك، كما أحبّك مليارات البشر في شتى أرجاء الأرض. ولأنك اخترتِ أن تغادري عالمنا يوم ٥ سبتمبر، وهو موعد رحيل أمي إلى الله، فأنا أعزّي نفسي فيكِ مرتين. طوبى لكِ ولكل من تعلّم "الحبَّ" وعلّمه لكي يصل إلى الله.
***