عيد ميلاد البابا الوطني


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7797 - 2023 / 11 / 16 - 07:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"... تقديرًا لدوره الوطني المشهود في إعلاء اسم مصر أمام العالم، والحفاظ على وحدة صفّها في لحظات دقيقة من تاريخ الوطن.” حفرتُ هذه الكلمات على درع التكريم الذي قدّمه صالوني الثقافي في شهر يونيو ٢٠١٩ لقداسة "البابا تواضروس الثاني"، الذي نحتفلُ هذا الشهر بعيد ميلاده وعيد رسامته على المقعد البابوي المصري في نوفمبر ٢٠١٢. ونعلمُ أن الرهبانَ، والبابا في الأصل راهبٌ، لا يحتفلون بأعياد ميلادهم. بل هم لا يتذكرّون ولا يعبأون بتلك المناسبات الدنيوية التي تشغل بال معظم البشر. ليس وحسب لأنهم رجالُ دين، ورجالُ الدين في الغالب مشغولون بالدين عن الدنيا؛ إنما يتخطّى الأمرُ ذلك حالَ الحديث عن الرهبان. فالراهباتُ والرهبانُ، يوم رسامتهم، يُصلَّى عليهن وعليهم "صلاةُ تجنيز" (كما نُصلّى على موتانا في الجنائز). وكأنهم قد غادروا الدنيا! وهو طقسٌ رمزي يشيرُ إلى أن مَن اختار حياةَ الرهبنة والبتولية، فإنه يُقرُّ، بكامل رضاه، بأنه قد فارق دنيانا الأرضية بكافة مباهجها، وكرَّسَ حياته كلَّها لخدمة الله. لا يتزوج الراهبُ، اقتداءً بالسيد المسيح الذي لم يعرف النساء، ولا تتزوج الراهبةُ، تشبُّهًا بالعذراء مريم، عليها وعلى ابنها السلام. ويتخطّى الأمرُ انقطاعَ الصلة بالعالم، إلى حدِّ تنازل الرهبان والراهبات عن كل ما يمتلكونه من متاع وبيوت وأموال، وحتى الشهادات العلمية. حتى الثوب الذي يغطّي الجسد، يرتدونه دون ملكية. وهل يمتلكُ "الميتُ" شيئًا؟! تلك هي الرمزية النقية التي تُشكّل حياة الرهبان الصعبة. كأنما طلاقٌ كامل وتامٌّ ونهائي مع الأرض، وحلولٌ كاملٌ وتامٌّ وأبديٌّ في السماء.
فماذا يعني، إذن، "عيدُ ميلاد" لأحد هؤلاء الزاهدين؟! لا يعني لهم شيئًا. لكن بوسعنا نحن المصريين الاحتفال بميلاد ورسامة رجل محترم أثبت وطنيته وحبّه لمصر في المحكّات الصعبة ولحظات النوازل. وإذن هذا المقال ليس تهنئةً بعيد ميلاد الصيدلانيّ النابه الذي نال زمالة الصحة العالمية بانجلترا، ثم نحّى جانبًا جميع درجاته العلمية ليغدو راهبًا، ثم بطريركًا، حتى صار البابا رقم ١١٨ على كرسي الباباوية المصري، بل هو تذكِرةٌ لنا ببعض ما صنعه "البابا تواضروس" من أجل استقرار مصر، ووحدة المصريين، وعدم شتاتهم. جميعنا نتذكّر يدَ الإرهاب السوداء التي طالت أقباطَ مصر المسيحيين، بعدما أخرجنا من جسد الوطن شوكة الإخوان المسمومة، وكأن إخوان الشيطان، ينتقمون من مصرَ، ليس فقط باستهداف الجيش والشرطة والمؤسسات، بل كذلك بضرب أقباط مصر المسالمين. ولكن الأقباط، كما عهدهم دائمًا، أبدًا ما قابلوا الإساءةَ بمثلها، بل قابلوا حرقَ الكنائس وقتل المصلّين في أعيادهم بمزيد من حب مصر، الوطن الغالي. ودائمًا كان ظهيرَهم رأسُ الكنيسة الذي يدعمُ تسامحَهم، ويُعزّزُ غفرانَهم للمسيء، ويقوّي فيهم الإصرار على وحدة الصفّ: مسلمين مسيحيين إيد واحدة في حب مصر، وضد الإرهاب.
هذا ما عوّدنا عليه باباواتُ الكنيسة المصرية، جيلاً بعد جيل، وعهدًا بعد عهد: أن يقدّموا مصلحة الوطن على كل ما عداه، وأن يحققوا عمليًّا درسَ الوطنية، والحبّ غير المشروط لمصر أرضًا وبشرًا. يشهدُ التاريخُ لأقباط مصر معدنَهم النقيّ الذي لا يتبدّل مهما قدّموا من أرواح شهدائهم؛ فداءً لمصر. هكذا المعادن الكريمة، كلما صُهرت في النار؛ ازداد نقاؤها وعلَت درجاتُ بريقها.
لا ننسى للبابا "تواضروس الثاني" لقاءه التاريخي بالمستشارة الألمانية "أنجلينا ميركل"، حين سألته عن حرق الكنائس وقتل المصلين المسيحيين وإن كان هذا معناه تمييز طائفي في مصر واضطهاد للأقباط؟ فقال لها بهدوء وحسم "إن المصريين شعبٌ واحدة متماسك مسلمين ومسيحيين؛ عدوهم المشترك هو الإرهاب". ثم أخبرها بأن الأقباط تحسنت أوضاعهم بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وأن "الجمهورية الجديدة" لا تميز بين الشعب على أسس طائفية، وهذا حقٌّ. هكذا الوطنيون يذودون عن وطنهم ولا ينشرون ثيابهم على حبال الغرباء. رفض “البابا تواضروس"، كما رفض من قبله "البابا شنودة" رحمه الله، أن تُحلَّ مشاكلُ الأقباط من "خارج" مصر. لأن مصر أولى بحلّ مشاكل أبنائها. تحية احترام لرجل نبيل يقود شعبًا نبيلا، لا يعرفُ سوى المحبة، التي لا تسقط أبدًا.
وبعد أيام نحتفل بعيد ميلاد الرئيس الوطني "عبد الفتاح السيسي" الذي أكّد منذ يومه الأول في الحكم أنه رئيسٌ لكل المصريين دون تمييز. يذهب كل عام في عيد الميلاد المجيد لتهنئة الأقباط المسيحيين بعيدهم من قلب الكاتدرائية المصرية، واقفًا جنبًا إلى جنب قداسة البابا تواضروس، في سابقة تاريخية لم يفعلها أيُّ حاكم مصري من قبل.
تلك هي أوراقُ "شجرة المحبة المصرية" التي يتكلّم عنها الرئيس السيسي في كلمته السنوية في عشيّات عيد الميلاد المجيد. الشجرة التي ستظلُّ تنمو وتُزهرَ حتى تُظلّل أرجاء مصر بكاملها، بإذن الله. كل عام وكل وطني شريف بخير في ظل خير مصر الحبيبة.
***