قانون -الأخلاق-... عند الجدِّ الصالح


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7873 - 2024 / 1 / 31 - 12:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

نحن أبناءُ الحضارة التي ابتكرت "قانون الإنسان" في فجر التاريخ البشري قبل صكّ مصطلح "الإنسانية" بأزمان سحيقة. نحن أبناءُ السلف المصري الصالح الذي علّم البشريةَ قانون “الأخلاق” أو "قانون ماعت" الذي سبق العالم تحضرًا وسموًّا ونبلا، فما كان القويُّ يتجبّرُ، بل يمنحُ الضعيفَ من قوّته. في اعترافاته الإيجابية والإنكارية لحظة وفاته، كان الجدُّ المصري يقول: “كنتُ عينًا للكفيف. كنتُ ساقًا للكسيح. كنتُ يدًا للمشلول. كنتُ أبًا لليتيم. لم أتسبّب في دموع إنسان، أو شقاء حيوان.” ذاك هو جدُّنا المصريُّ الذي علينا أن نجهدَ ونرتقي بأرواحنا وثقافتنا وإنسانيتنا حتى نستحقَّ أن نكون حفدةً له.
بدعوة طيبة من اللواء/ "وديد بطرس" لإلقاء كلمة لأعضاء "جمعية مصر الجديدة الثقافية"، فكّرتُ عن ماذا أتكلم. ولم أتردّد كثيرًا في اختيار الموضوع. فاللواء/ "وديد" هو رئيس مجلس أمناء "مؤسسة السرب الصغير للتنمية" Little Folk وهي مؤسسة غير ربحية نشأت عام ٢٠٠٩ تهدفُ لتوفير حياة أفضل لأطفال مصر وشبابها من "ذوي الهمم" في المناطق المهمشة والأقل حظًّا، عبر تنمية قدراتهم وتمكينهم ليصبحوا أعضاءً فاعلين في المجتمع؛ تماشيًا مع أهداف التنمية المستدامة مصر ٢٠٣٠. فاخترتُ أن أتكلم عن "قانون الأخلاق" الذي أسّس حضارتنا المصرية العريقة الخالدة، والذي لولاه ما كانت مصرُ أمَّ الدنيا وغارسةَ حضارتها. فالإنسانيةُ، الأخلاقُ، الحضارةُ، مثلثٌ مغلقٌ مكتملٌ بذاته، إن اختلّ أحدُ أضلاعه، انهارَ من فوره. فالحضاراتُ العظمى لا تقومُ إلا على ركيزة "الأخلاق". و"الإنسانية" هي حجرُ زاوية "الأخلاق".
في الفصل ١٢٥ من (كتاب الموتى) المكتوب بالهيروغليفية، واسمه الأصلي: (الخروج إلى النهار)، وهو أقدمُ كتاب في التاريخ، وفي المتحف البريطاني نسخةٌ أصلية منه، ويضمُّ مجموعة من الوثائق الدينية والنصوص الجنائزية لتكون دليلاً للمتوفى في رحلته إلى العالم الآخر؛ نقرأ ما يلي: “يقول المُحكّمون: "إن قلبَ الرجل بالحقيقة قد وُزِن، وروحَه وقفت شاهدةً عليه، وقد وُجِد لا تشوبه شائبةُ شرٍّ، ولم يأتِ بالأذى في أعماله، ولم ينطق بلسان السوء حين كان على الأرض، ووجد صادقًا عند وضعه على الميزان العظيم." هنا يُمنح المتوفَى لقب: "صادق القول"، التي تكافئ اليوم عبارة: "المغفور له"، فيُعيدون تركيبَ قلبه في جسده المحنّط، ويُمنحُ ملابسَ بيضاءَ مشرقةً، لكي يدخلَ الفردوسَ، ويُخصَصُ له خدمٌ وحاشيةٌ يسمونهم "أوجيبتي" أي المُجيبين المطالب.
وأما "ماعت" فهي ربَّةُ الحقيقة والضمير والعدالة، وكانت على هيئة امرأة جميلة تضعُ ريشةً على رأسها: ريشة الضمير. يقفُ المتوفّى ويُقرُّ باثنين وأربعين اعترافًا ثبوتيًّا: (كنتُ-فعلتُ)، واثنين وأربعين اعترافًا إنكاريًّا: (لم أكن -لم أفعل). ثم يوضع قلبُ المتوفى في كفّة الميزان، وفي الأخرى توضع ريشة ماعت، فإن ثقُلَ القلبُ، كان محملا بالآثام وانتهى أمرُه بالعذاب الأبدي والفناء، وإن خفَّ القلبُ كان هذا دليلا على أنه قلبٌ طاهرٌ متحررٌ من الخطايا، مستحقٌّ الفردوس. يحدثُ هذا في ختام طقس المحاكمة الأوزورية التي يخضعُ لها المتوفى في مصر القديمة بعدما تجري محاسبتُه على جميع ما صنع أثناء رحلة حياته على الأرض من حسنات أو آثام. فإن كان صالحًا ينالُ البعث في الحياة، وإن كان آثمًا يلتهم قلبَه وحشٌ اسمه "عمعموت" له رأسُ تمساح، وجسد أسد وفرس نهر، كما تخبرنا الميثولوجيا المصرية القديمة.
من الاعترافات الثبوتية: أنا أُشرّف الفضيلة. أنا أحبُّ جميع الناس. أنا أقدّر الجميل. أنا أنشرُ السلام. أنا أقدس الحياة، أحيا في الحق، وأحترم جميع المعتقدات. أنا أتكلم بالصدق، وأحسِن الظن. أنا أذكر محاسن الآخرين، وأتوازن في مشاعري. أنا أُعلي شأن العفّة. أنا أنشر الفرح. أنا أبذل قصارى جهدي في العمل. أنا أتعامل بودٍّ مع الناس وأتسامح وأغفر وأُنصتُ للآراء المعارضة. أنا أرفضُ العبثية والسخرية والتنمّر. أنا أتكلم بحسن نية. أنا أحفظُ كرامتي، وأترقى. أنا لا أردُّ سائلاً وأتصدّق على الفقراء. أنا أحافظ على المياه ولا ألوث النهر.
ومن الاعترافات الإنكارية: لم أقتل، ولم أُحرّض على القتل، لم أتسبب في الإرهاب. أنا لم أتسبب في دموع إنسان. لم أظلم. لم أسرق. لم أحرم إنسانًا من حقّ. لم استدعِ شاهد زور. لم أجرح شخصًا بالكلمات. لم أخدع ولم أتماكر. لم أحتقر أحدًا. لم أتنصّت على أحد. لم أطمس الحقيقة. لم أحكم على إنسان في تعجّل وقسوة. لم أتسبب فى إتلاف يتعيّن إصلاحُه جهدُ عمّال أو سجناء. لم أغضب دون سبب وجيه. لم اتخذ اسم الله هزوًا. لم أتصرف بوقاحة. لم أكن مغرورًا. لم أُخلّ بالتزاماتي اليومية. أطعتُ القانون ولم أرتكب الخيانة.
كان هذا "قانون الأخلاق" الرفيع الذي عرفه أجدادنُا قبل نزول الأديان بآلاف السنين، والذي أنشأ حضارة مصر العظيمة، أعرق وأرقى حضارات الأرض.



***