رأسُ السنة المصرية 6265 … عيدٌ قومي


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7737 - 2023 / 9 / 17 - 10:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

رأسُ السنة المصرية 6265 … عيدٌ قومي

أمس الأول، 11 سبتمبر احتفلنا برأس السنة المصرية رقم 6265 على التقويم المصري القديم، الذي بدأ قبل أكثر من اثنين وستين قرنًا من الزمان. وعلينا أن نتذكر أن "رأس السنة المصرية" هو عيدٌ "وطنيٌّ" عظيم يخصُّ المصريين "جميعًا" (وليس عيدًا دينيًّا مسيحيًّا، كما يظنُّ البعض). لأن هذا التقويم العريق موجودٌ قبل نزول المسيحية وقبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بأكثر من 4000 سنة. وأرجو أن تحتفل به مصرُ رسميًّا في مقبل السنوات كـ "عيد قوميّ"، لأنه "رأسُ حَربة" اعتزازنا بهويتنا المصرية الرائدة الخالدة التي تولي الدولةُ المصرية الراهنة الكثيرَ من الاهتمام بترسيخها في وجدان الشعب المصري، ابن تلك الحضارة العريقة الخالدة.
ولمعرفة السبب في خلط بعض الناس بين "رأس السنة المصرية القديمة كعيد مصري"، وبين "رأس السنة القبطية كعيد مسيحي"، دعونا نحكي القصة من البداية. بدأ التقويم المصري القديم منذ 6265 عامًا؛ حينما اكتشف الجدُّ المصري العبقري حتمية تدوين الزمن، وابتكار تقويم زمني دقيق؛ من أجل تنظيم عمليات الزراعة من حيث تواقيت: الحرث والغرس والريّ والحصاد. وظل التقويم المصري قائمًا وحده حتى عام 284 ميلادية، حين حدث "عصر الشهداء" الأقباط في مصر، بسبب رفض المسيحيين المصريين الطقوسَ الوثنية في عهد الإمبراطور الروماني "دقلديانوس". في ذلك العام قرّر المصريون "تصفير" التقويم المصري القديم ليبدأ من تاريخ عصر الشهداء تخليدًا للشهداء المصريين. هنا تزامن "التقويمُ المصري" مع "التقويم القبطي"، وظل الاختلاف في العدّاد الزمني قائمًا. ولهذا صار لدينا تقويمان: المصري القديم، ووصلنا إلى عام 6265 مصرية، والتقويم القبطي ووصلنا إلى عام 1740 قبطية.
وبالعودة إلى رأس السنة المصرية القديمة، فمن أسمائه عيد "النيروز" المشتقّ من الكلمة المصرية القديمة: "ني-يارؤو"، وتعني: (الأنهار). لأن شهر (توت/ تحوت) وهو أول الشهور المصرية والقبطية، يتوافق مع موعد اكتمال فيضان نهر النيل (حابي)، أصل الحضارة والحياة عند سلفنا المصري العبقري. وسبب تحوّر الكلمة المصرية: "ني-يارؤو"، إلى "النيروز"، يعود إلى الإغريق الذين دخلوا مصر غزاةً عام 323 ق.م.؛ وكعادة الإغريق اللغوية في إضافة حرف (س) إلى أسماء الأعلام، فقد أضافوا للكلمة القبطية حرف (س)، فتحولت كلمة (ني يارؤو) إلى (نيروس)، التي تَحوَّر نطقُها مع الوقت إلى: (نيروز).
التقويم المصريّ القديم يحفظُه عن ظهر قلب كلُّ فلاح مصري؛ إذ يحسِبُ من خلاله مواعيدَ غرس البذور وحصاد المحاصيل وفق شهورها الثلاثة عشر: (توت، بابة، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرا، النسي)، وهي ما تُعرف اليوم بالشهور القبطية. أما العالم المصري الكبير "تحوت"، أو "توت" كما اشتُهر، فيعود إليه الفضلُ في ابتكار التقويم المصري القديم، ولهذا تبدأ الشهورُ المصرية باسمه (توت) تخليدًا لمقامه الرفيع في العلوم والمعرفة والفلك واللغة والرياضيات والحساب والألسنيات والفلسفة. وهو كذلك مخترعُ حروف الأبجدية الهيروغليفية التي خلّدت حضارتنا المصرية الثرية. وهي الحروف المكتوبة على حجر رشيد والتي من خلالها تعرفنا على شطر من تاريخنا العظيم. لهذا يُعرف "توت" أو "تحوت" بـ "ربّ القلم"؛ فكرّمه المصريون القدامى ونصّبوه إلهًا للحكمة والمعرفة، في الميثولوجيا المصرية، تقديرًا لعلمه الموسوعي الغزير. وتُصوِّره الجدارياتُ الفرعونية بجسم إنسان ورأس طائر "أبي منجل". ويكون بهذا هو النظيرَ الذكوري للإلهة "ماعت" ربّة العدالة في أدبياتنا المصرية؛ التي يحتلُّ تمثالُها جداريات جميع محاكم العالم في صورة امرأة جميلة معصوبة العينين تمسك بيدها ميزانًا، هو ميزان العدالة الذي صار رمزًا للقانون والعدل في التراث الإنساني كافة. وأما عُصبة العينين فدلالة على الحياد التام للقاضية التي لا تنظر إلى وجوه الخصوم لكي تحكم بينهم بالحق والعدل بعيدًا عن الأهواء والمنازع الشخصية. في المحكمة الأوزورية (نسبة إلى أوزوريس) التي يتم فيها محاسبة الموتى، كانت ريشة "ماعت"، رمزَ الضمير، توضع في إحدى كفّتي الميزان مقابل الكفة الأخرى التي يوضع فيها قلبُ المتوفى لحظة حسابه، كما تقول الأسطورة المصرية القديمة. فإن ثَقُل قلبُ الميت، وهبطت كفّته عن كفة الريشة، كان المرحوم مثقلا بالآثام والخطايا فيُلقى به إلى الوحش الأسطوري "عمعموت" حتى يأكله ويفنى، أما من خفّ قلبُه عن ريشة ماعت، كان متخفّفًا من الآثام، ولا خوفٌ عليه ليدخل الأبدية في صحبة الإله "أوزوريس”. أما من يقوم بحساب حسنات الميت وذنوبه ويدوّنها في دفتره، فكان هو الإله "تحوت"، أو "توت"، الذي نحتفل اليوم بعيده مع رأس السنة المصرية. وفي عظمة العالم المصري "تحوت" تُكتب عشرات المقالات. ومن بين إبداعاته أنه المسؤول عن توازن قوى الخير وقوى الشر في الطبيعة، كما ورد في الأدبيات المصرية القديمة، وهو ما سأطرحه في مقال قادم بإذن الله. سنة مصرية جديدة سعيدة، حاشدة بالرحمة من الله تعالى على جميع البشر في هذا العالم.
***