أنا لا أنساكِ فلسطينُ


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7807 - 2023 / 11 / 26 - 11:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

حين تسمعُ صوت "فيروز" الآسر يشدو: “أنا لا أنساكِ فلسطينُ"، في هذه الأيام الجحيمية التي تعيشُها فلسطينُ وشعبُها الصامد المستبسل في وجه المحتلّ الإسرائيلي الدميم، لا تملكُ إلا أن تراقبَ كيمياءَ جسدك تتبدّلُ، وسنونَ الأشواك تخِزُ روحَك، وخفقَ قلبِك يتزايد حتى تسمعَ وجيبَه يقولُ ما كتبه "سعيد عقل” على نغم الرحابنة : “سيفٌ فـ لِيُشْهَر في الدنيا وتسطع أبواقٌ تصدع/ الآنَ الآن و ليس غدًا/ أجراسُ العودةِ فلتُقرَع/ أنا لا أنساكِ فلسطيُن/ ويشدُّ يشدُّ بي البُعد/ أنا في أفيائك نسرينُ/ أنا زهرُ الشوكِ أنا الوردُ/ سـ ندُكُّ ندُكُّ الأسوارَ/ نستلهمُ ذاتَ الغار/ ونُعيدُ إلى الدارِ الدارَ/ نمحو بالنارِ النار/ فلتسطعْ أجراسٌ تُقرَع/ قد جُنَّ دمُ الأحرار.”ما أوفقَ تلك الكلمات الماسّة مع اللحظة الراهنة؛ وكأنها كُتبت يومَ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣! وما أنصعَ قضية فلسطين وحق شعبها في التحرر من غول الاحتلال الصهيوني! ليس فقط أمام العرب، كما اعتدنا على مدار الخمسة وسبعين عامًا الماضية منذ قيام دولة إسرائيل نتوءًا شيطانيًّا على أرض فلسطين، بل أمام العالم بأسره! تلك هي الثمرةُ الماجدةُ التي نحصدها اليوم وكان ثمنُها غاليًا إذْ رُويت بدماء١١ ألف شهيد فلسطيني، حتى اليوم، نصفهم من الأطفال، ومازال رِيُّ الثمرة مُهرقًا إلى أجل يعلمه اللهُ نرجو أن يكون قريبًا. الثمنُ غالٍ والرِّيُ طاهرٌ وعزيزٌ، لكن الثمرةَ تنضج يومًا بعد يوم حتى صار مرآها يسُرُّ الناظرين. شعوب العالم اليومَ تخرجُ إلى الميادين ترتدي "الكوفية الفلسطينة" ينددون بما تفعله إسرائيلُ الباغية في الشعب الفلسطيني الأعزل؛ الذي لم يهُن ولم يستسلم على مدار خمسين يومًا في ظل خرابٍ كامل وظلام حالك وتشريد وتجويع ومذابح لم تحدث في تاريخ مدونة الإجرام العالمي. شعوبُ العالم الغربي كل يومٍ تخرج في تظاهراتٍ حاشدة تدعم فلسطين وحقها في وطن حرّ خارج أسوار الاحتلال الحاقد. العالمُ الغربي، الذي كان يدعمُ إسرائيل طوال الوقت، بدأ يستفيقُ من غفلته التاريخية وينتبه إلى أن الحقَّ، كلَّ الحقِّ، ليس في دعم المُحتَلّ الإسرائيلي (الفاعل، الذي اِحتَلَّ) بل في دعم الُمحتَلّ الفلسطيني (المفعول به؛ الذي اِحتُلَّ)؛ وما حيلتي والفاعلُ والمفعولُ من الفعل: "يحتلُُّ احتلالاً"، لهما نفس الحروف والتنضيد في اللغة العربية: "مُحتلّ”! اصطفافُ العالم حول قضية فلسطين اليوم، هو "ثمرةٌ فاخرة" علينا أن نفخرَ بها ونحافظَ عليها ونستثمرَ فيها، لأنها ثمرةٌ عزيزة ضنّت علينا طويلا، إذ لم نستطع استنباتَها على مدى العقود منذ عام ٤٨، عبر عشرات الآلاف من المقالات كتبها مثقفون عربٌ، وآلاف الحوارات والسجالات التي انطلقت تدافع عن حق الفلسطينيين في أرضهم، بل عبر حروب طاحنة خضناها ضد الكيان الصهيوني، كان دائمًا الجيشُ المصريُّ الباسلُ في طليعتها، وكان الدمُ المصريُّ المُراق على ساحاتها هو الدم الأغزر.
ما أعجبَ القلم وما أغربَ تصاريفه! جلستُ إلى مكتبي وفتحتُ أوراقي وأمسكتُ قلمي لأكتبَ عن "فيروز"، وأقدّم لها التهنئة في عيد ميلادها الذي حلَّ أول أمس ٢١ نوفمبر، فإذا بي أكتبُ عن فلسطين وصمود شعبها الحرّ في وجه الغول الإسرائيلي القبيح! وللقلم- كما تعلمون- سلطانٌ مستبدٌّ على الكاتب. القلمُ سيّدُ قراره. نجلس إلى الورق لنكتبَ ما نفكر فيه، فنجدُ القلمَ يكتبُ ما يهوى، فنستسلم له صاغرين! ربما لأن القلمَ غالبًا يدري عنّا أكثر مما ندري عن أنفسنا. القلمُ يعلمُ همومَنا وأحلامَنا وشغفَ قلوبنا، أكثرَ مما نعلمُ نحنُ! وتلك عجيبةٌ من "عجائب الكلمة"، نَعجبُ لها، ونُعجبُ بها، ونرضى عنها، ونحبُّها.
والآنَ الآنَ أقفُ أمام قلمي بكل خضوع، أرجوه أن يترك لي ما تبقّى من كلمات قليلة في هذا المقال، لأكتب شيئًا جميلا، لا دماءَ فيه ولا حروبَ ولا صراعاتٍ ولا احتلال. أستأذنُه أن أكتبَ عما نويتُ أن أكتب عنه في البدء: عن "فيروزة هذا العالم"، "فيروز". فإن كان ثمّة شيءٌ في الحياة جميلٌ إلى درجة أن تسامحَ من أجله كلَّ عذابات العالم، فهو بالتأكيد صوت "فيروز"، الذي يأخذك من دنيا الحروب والعنف والدماء والرصاص، إلى عالم طفوليٍّ نقيّ بريء لا يعرفُ إلا صدحَ العصافير وطنيَن النحل وألوانَ الفراشات وشذى الزهور. عالمٌ ينسى الأطفالُ فيه أن يكبروا حتى يظلوا أطفالا لا يعرفون المصالح ولا البرجماتيات. ففي مثل هذه الأيام الخريفية التي تخاتلُ بين الصيف بخيوطه الصفراء والشتاء بخيوطه الرمادية، قررتِ السماءُ أن تمنح الأرضَ، التي أغرقها الحَزَنُ والانكساراتُ والحروب، هديةً عذبةً. فسقطت فوق كوكبنا الحزين غيمةُ قطرٍ عذب اسمها "فيروز" مرّت فوق صحارينا العطشى فبللت حلقَها. كل عام وأنت مشرقةٌ يا فيروز" ونغني معك: “الغضبُ الساطعُ آتٍ، للقدسِ سلامٌ آتٍ".
***